الطبع والصنعة - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 2:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطبع والصنعة

نشر فى : الأحد 3 مايو 2009 - 7:45 م | آخر تحديث : الأحد 3 مايو 2009 - 7:45 م

 الطبع عند ابن الأثير هو الاستعداد الفطرى أو العبقرية أو الموهبة التى يهبها الله من شاء من عباده، وتأتى من فيض إلهى من غير تعلم سابق، ومن يُخْتَص بها يكون فذا واحدا يوجد فى الزمان المتطاول.

أما الصنعة فهى القدرة اللغوية المتميزة على صناعة الشعر، ووسائل التمكن من الصنعة عند ابن طباطبا هى الدربة وسعة الاطلاع والحفظ لروائع الشعر قديمه وحديثه.

وقد ميَّز النقاد العرب القدماء بين الشعراء وفقا لهذا التصنيف أحيانا، فوصفوا بعضهم بأنه شاعر مطبوع أى موهوب «يغرف من البحر» ويأتى فى صوره وتراكيبه بالجديد المتفرد الذى لا يمكن أن يأتى به غيره، كما وصفوا بعضهم بأنه شاعر مصنوع «يَقُدُّ فى صخر» أى أنه يعانى عند كتابة الشعر كأنه يحفر فى صخر، وما ينتجه من قصائد يعتمد على الخبرة والدربة الفائقتين، ويمكن أن يأتى به كل من له خبرة مماثلة دون تفرد أو تمايز.

وقد التفت المتبصرون من هؤلاء النقاد إلى ضرورة اجتماع الطبع والصنعة فى الشاعر المُجِيد، حيث قال القاضى الجرجانى فى كتابه «الوساطة بين المتنبى وخصومه» إن الطبع وحده لا يكفى، كما أن الصنعة وحدها غير كافية، وأن كلا منهما يقوى الآخر ويعززه. أما أبو هلال العسكرى فيرى أن الخلق الأدبى فى كل من الشعر والنثر لا يتحقق إلا بثلاث مراحل:
1ــ التهيؤ النفسى والذهنى.

2ــ مثول المعانى والصور منثورة فى الذهن بمرحلة التكوين.

3ــ التعبير عن هذه المعانى فى عبارات يتم تثقيفها ومراجعتها والتغيير والتبديل فيها حتى يجىء الكلام سلسا سهلا.

ووفقا لرؤية أبى هلال العسكرى فإن أى خلق أدبى يمر بمرحلتين بالضرورة، الأولى مرحلة مثول الفكرة الجديدة والصورة المتفردة فى الذهن وهذا يقع فى دائرة الطبع ويبرز فيه تمايز الموهبة، والأخرى مرحلة الصياغة وتبرز فيها الصنعة من خلال التمكن اللغوى والقدرة على التغيير والتبديل بين المفردات. والأمر فى جوهره ليس على هذه الدرجة من البساطة والتجريد، لأن المعانى والصورــ وبخاصة فى الشعر ــ لا ترد على ذهن المبدع إلا مصاحبة لقوالبها اللفظية، والإنسان عموما لا يفكر إلا باللغة.

وعلى الرغم من الاعتراف بضرورة المزاوجة بين الطبع والصنعة فى الإبداع الشعرى وعدم القدرة على الفصل بينهما عمليا، فإن هناك حالات تبرز خلالها القصيدة فى كتابة الشعر، وبخاصة مع عنصر المفاجأة الذى يستبعد التهيؤ الوجدانى للكتابة، وهنا تغلب الصنعة على الطبع، ويمكن المقارنة بين الشاعرين فى صنعتهما.

فلقد كان الشاعر إبراهيم ناجى على سبيل المثال فى حفل بجمعية نسوية عام 1950م فالتف حوله جمع من الفتيات يسألنه: هل تستطيع أن ترتجل شعرا؟ فقال:

سربٌ من الحور الفواتن كالزهـــــــور نواضــــــرُ
ألهــمننـى وأحــطـن بـى فجرى بشعرى الخاطرُ
ألهــــمننى وشـككن بــى ونســــين أنــى شــــاعرُ
فإذا اعـــترفــن فإننـــــــى بالفضــل دومــا ذاكـــرُ
وأنا لــ «فــلـةَ» عـــــــارفٌ وإلــى «أمـينةَ» شــــاكرُ

وباستثناء البيت الأول الذى يتضمن صورة لسرب الفتيات ويشبههن بالزهور، وبغض النظر عن أنه يدخل فى باب الصور المستهلكة التى تم إعادة إنتاجها مرارا عبر التاريخ الشعرى، فإن باقى الأبيات يدخل فى دائرة النظم الصريح، وإن حاول الشاعر رفع الكفاءة الشعرية للمقطع عبر محاولة التفكه التى قد يراها المتلقى استظرافا لا ظرفا، فتصبح عالة على الشعرية بدلا من أن تكون طوق نجاة للشاعر.
أما الشاعر العراقى محمد مهدى الجواهرى فقد تعرض لموقف مماثل عندما قالت له إحدى المذيعات: يقولون إنك امرؤ القيس العرب فهل يمكن أن تقول فىّ شعرا؟

وكانت هذه المذيعة الجميلة ترتدى تنورة سوداء قصيرة، فأنشد الجواهرى قائلا:
وقَصَّرَتْهُ إلى ما فوق رُكْبَتِهَا ليعلم الصَّبُ بعد الساقِ ما الباقى
وأسْكَرَتْهُ بلا خَمْرٍ ولا قَدَحٍ وتفعل السـاقُ ما لا يفعل الســاقى

لقد صنع الجواهرى فى لحظة واحدة مشهدا دراميا ممتدا فى البيتين يبدأ بتخيل سبب تقصير الفتاة للتنورة، مرورا بوصف صورتها وهى ترتديها، عبورا إلى وصف تأثيرها فى وجدان الناظر إليها، وانتهاء بمقارنة تأثير رؤيتها فى هذه الصورة بتأثير ما تصنعه الخمر فى رأس شاربها، منتصرا للنشوة الأولى على حساب الثانية.

وعلى الرغم من أن المشهد فى جملته يقع فى دائرة الغزل الحِسِّى فإنه جاء عفيفا فى ألفاظه، وكل قارئ يتحمل وزر فضاء النص الذى يتخيله بنفسه.

أما الصياغة اللغوية فتربط البيتين فى صورة كلية واحدة وليس بواو العطف فقط، فى حين ترتبط الشطرة الثانية فى كل بيت من البيتين ارتباطا عضويا بنصفها الأول وكأنه علاقة علة بمعلول أو سبب بنتيجة.

وهذا كله لم يمنع الشاعر من تمرير جناس سلس بين«الساقِ» التى هى جزء من رجل الفتاة و«الساقى» الذى لا يكون إلا فى الحانة، وهو جناس لفظى يعضد المقارنة بينهما فى الصورة الشعرية. كما أن تكرار الشاعر لحرف القاف سبع مرات فى هذين البيتين يحدث قلقلة إيقاعية فى نفس المتلقى تتناسب تماما مع الأثر الذى تحدثه فى نفسه الصورة الشعرية المتضَمَّنة فيهما.

رحم الله الشاعرين وأبقى لنا الشعر.

التعليقات