واحد وعشرون دقيقة - أحمد رحمي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 12:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

واحد وعشرون دقيقة

نشر فى : الخميس 4 أغسطس 2016 - 9:00 م | آخر تحديث : الخميس 4 أغسطس 2016 - 9:00 م
عزيزى القارئ، أين كنت صباح يوم الأربعاء 27 مايو 2016؟ سؤال صعب؛ أليس كذلك؟ لكن المقبل أصعب؛ أين كنت فى نفس يوم الأربعاء بين الساعة الثالثة والربع عصرا والثالثة وست وثلاثين دقيقة عصرا أيضا، ماذا كنت تفعل؟ من كان معك؟

قد تستخدم هاتفك المحمول أو جهاز الحاسوب الشخصى لتعود بالزمن فى برنامج تنظيم المواعيد لهذا التاريخ وهذا التوقيت تحديدا، وتحاول التذكر ولكن هيهات؛ لا فائدة، إن لم تكن من القلائل النادرين على مستوى العالم الموهوبين بذاكرتهم فلن تستطيع تذكر هذا اليوم «العادى»، وستجيب بكل بساطة «صدقا؛ لا أتذكر».

هذه تحديدا كانت إجابة «عدنان سيد» الأمريكى الجنسية والباكستانى الأصل، فى معرض التحقيق معه لاتهامه بقتل حبيبته السابقة وزميلته فى المدرسة «هاى من لى» الأمريكية الجنسية والكورية الأصل، والتى قتلت خنقا فى يناير 1999. كانت هذه الإجابة غير الشافية فى التحقيقات التى بدأت مع «عدنان» بعد ستة وأربعين يوما من تاريخ حادث القتل واحدة من أهم دعائم إدانته المباشرة بخطف «هاى» وشنقها وإخفاء جثتها، والحكم عليه بالسجن مدى الحياة مع ثلاثين عاما إضافية (حتى لا يتمتع بحق الإعفاء المبكر من العقوبة).

كان عمر «عدنان» 17 عاما عند الحكم عليه فى يونيو 2000، وهو يقضى عقوبته من ذلك الحين مع أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف شخص فى سجون الولايات المتحدة الأمريكية، منهم نحو 170 ألف محكوم عليهم بعقوبات مدى الحياة، و2500 شخص كانوا قصرا مثل «عدنان» وقت الحكم عليهم بعقوبة مدى الحياة (لا يمنع القانون الأمريكى فى الجرائم الشديدة الخطورة مثل القتل الحكم على قصر بعقوبات مدى الحياة مخالفا بذلك كل تشريعات العالم الجنائية تقريبا).

كان الحكم الذى صدر فى حق عدنان مبنيا على ثلاثة أدلة رئيسية، أولها عدم قدرته على تحديد مكان وجوده فى الواحد وعشرين دقيقة، وهو الزمن المتصور لارتكاب الجريمة بين الثالثة والربع موعد خروجه و«هاى» من المدرسة، والثالثة وست وثلاثين دقيقة، وهو وقت مكالمة تمت بين «عدنان» وصديق له من المدرسة يسمى «جاى وايلدز».

الدليل الثانى هو شهادة «جاى وايلدز» فى التحقيقات أن «عدنان» اتصل به على التليفون المحمول يوم حدوث الجريمة فى الساعة الثالثة وست وثلاثون دقيقة ليطلب منه الحضور فى موقف سيارات متجر قريب من المدرسة، وعندما وصل «جاى» لموقف السيارات أبلغه «عدنان» أنه قتل «هاى مين لى» ويريد منه المساعدة فى إخفاء جثتها القابعة فى مؤخرة السيارة. برر «جاى» قبوله للمشاركة فى إخفاء جثة «هاى» بأنه كان يتاجر فى المخدرات لطلاب المدرسة وكان يخشى فى حال رفضه لطلب «عدنان» أن يوشى به ويسلمه للعدالة. وبسبب شهادته وتعاونه وبالرغم من تهمته «الاشتراك فى التستر على جريمة قتل» إلا أن المحكمة قررت إعفاءه وإخلاء سبيله لتعاونه فى فك لغز القضية.

الدليل الثالث والأخير هو التقرير التقنى لشركة اتصالات المحمول والذى أكد وفقا لمكالمات واردة لهاتف «عدنان»، ومن خلال فحص بيانات أبراج تقوية الهاتف أنه كان موجودا فى نفس مكان اكتشاف جثة «هاى» فى تاريخ يوم اختفائها، والتى تم اكتشافها بعد أكثر من أسبوعين من الاختفاء.

هناك أيضا جانب آخر من القضية وهو أن عائلة «عدنان» عائلة ملتزمة دينيا بدينها الإسلامى وتحرم على «عدنان» العلاقات الجنسية المفتوحة، وتحرم عليه مظاهر الحياة التى تمثل حياة أغلب الشباب الأمريكى فى هذا السن، حتى أن والدا «عدنان» تتبعاه فى أحد الأيام إلى حفلة راقصة فى منزل أحد أصدقاؤه بالمدرسة وصفعه والده على وجهه وأخرجه من الحفل، وهو ما اعتبرته المحكمة دليل أن «عدنان» ضحى كثيرا وحارب أهله من أجل «هاى»، فعندما هجرته؛ أراد أن ينتقم وبشدة لأنه خسر كل شىء من أجلها على حد توصيف المحكمة. بإضافة الأدلة الثلاثة وتفاصيلها توصلت محكمة مدينة «بالتيمور» بولاية «ميريلاند» الأمريكية لقرارها وحكمها البات والنافذ بحبس «عدنان» مدى الحياة وإضافة ثلاثين عاما للعقوبة لارتكابه جرائم أخرى غير القتل مثل الخطف والاحتجاز غير المشروع، وأغلقت القضية تماما على هذا الوضع.

***

تكاد قصتنا أن تنتهى عند هذا الحد، ويقبع «عدنان» فى غيابات السجن حتى نهاية عمره لا يذكره أحد ولا يعرفه أحد، غير عالمين ما إذا كان ظالما يستحق جزاؤه أم مظلوما كانت لديه فرصة حياة عادية وطبيعية، مثله فى هذا مثل عشرات الآلاف من القصص التى يمكن أن نسمعها عن المساجين الجنائيين حول العالم. شخص واحد فقط كان مهتم لأمر «عدنان»، وهى صديقته المحامية «ربيعة شدرى»، ففى لمحة وفاء نادرة الحدوث، ظلت «ربيعة» تتابع التماسات إعادة فتح القضية عبر السنين، وتزوره فى محبسه وتحاول بشتى الطرق رفع الحكم عنه وإخلاء سبيله. قضت «ربيعة» خمسة عشر عاما لا تمل ولا تكل عن متابعة الأمر، حتى وصلت بها السبل إلى «سارة كْينج» الإعلامية الأمريكية المجتهدة، والتى شاركت من قبل فى كشف ملابسات قضية مشابهة لقضية «عدنان». أرسلت لها «ربيعة» رسالة بالبريد الإلكترونى فى 2013 ترجوها المساعدة وتعدها أن هناك العديد من الثغرات فى قضية «عدنان» تضمن له الخلاص من العقوبة.

تناولت «سارة كْينج» تفاصيل قضية «عدنان»، والتى ستصبح فيما بعد حديث المجتمع الأمريكى عبر برنامجها الإذاعى على الإنترنت (بودكاست) والمسمى «Serial» فى موسمه الأول. البرنامج استغرق اثنى عشر حلقة من أكتوبر إلى ديسمبر 2014، وهو برنامج فريد من نوعه يدخل فيه المستمع لعمق تفاصيل القضية وشهادات الشهود وتحقيقات النيابة. فى تجربة تعتبر الأولى من نوعها، يستمع فيها متابع الحلقات لمكالمات «عدنان» نفسه مع «سارة» من داخل السجن (يتيح القانون الفيدرالى الأمريكى للسجون الأمريكية تنظيم استخدام المساجين للهاتف، وبعض الولايات والسجون تتيح إجراء مكالمات تليفونية طويلة نسبيا وبشكل متكرر)، ويستمع متابع الحلقات أيضا لتسجيلات تاريخية للتحقيقات وأقوال الشهود والمحاكمات (يتيح القانون الفيدرالى الأمريكى المسمى «حرية الاطلاع على المعلومات» الاطلاع على جميع تسجيلات وأدلة أى قضية، معلومات وبيانات أى جهة حكومية أو مشروع قومى ــ مع وجود استثناءات بالطبع ــ)، بل ويستمع أيضا لمكالمات «سارة» مع أطراف القضية فى الوقت الراهن وبعد مرور خمسة عشر عاما على القضية! كل هذا فى إطار درامى مشوق ومحبوك ليضع المستمع فى قلب القضية، بصوت «سارة» الرخيم الهادئ ودقات البيانو المتوترة القلقة فى الخلفية.

هذه العوامل جعلت «Serial» هو واحد من أكثر «البودكاست» استماعا وانتشارا وشعبية فى تاريخ أمريكا والعالم، وأصبح هناك قرابة الأربعة ملايين أمريكى يجلسون كل يوم خميس فى ترقب متابعين الحلقة الأسبوعية على هواتفهم المحمولة أو حواسبهم الشخصية، كما كان العالم العربى ينتظر حفل «أم كلثوم» على رأس كل شهر. ولشهور عدة؛ كان البرنامج حديث كل لقاء أسرى على الغداء واستهلالية اجتماعات العمل.

فندت «سارة» خلال الحلقات المشوقة الأدلة الأساسية لإدانة «عدنان» وتوصلت فيما يتعلق بالدليل الأول الخاص بمكان وجود «عدنان» وقت ارتكاب الحادث أن المحكمة أغفلت وجود شاهدة نفى اسمها «أشيا ماكلين» زميلة «عدنان»، والتى أرسلت له خطابا بعد صدور الحكم عليه أنها تتذكر جيدا أنها قابلته فى المكتبة العامة القريبة من المدرسة فى يوم اختفاء «هاى» وتحديدا الساعة الثالثة والنصف، ولكن للعجب لم يتم استجوابها أثناء التحقيقات وأنكرت «أشيا» بعدها هذه الشهادة عندما سئلت مرة أخرى بشكل غير رسمى عن الواقعة.

وطرحت «سارة» فى الحلقات تساؤلات عدة عن شهادة «جاى وايلدز»، والتى تعتبر الدليل الثانى لإدانة «عدنان» وكونها غير متماسكة أو منطقية، حيث إنه قام بتغيير تفاصيل جوهرية فى تلك الشهادة فى الاستجوابات المختلفة. الممتع فى الأمر أننا نسمع هذه الشهادات الأصلية بنفسنا ونستخرج مع «سارة» أوجه الاختلافات!

أما عن الدليل الثالث والأخير والذى يعد هو محور الأساس فى إثبات جرم «عدنان»، وهو بيانات أبراج الهاتف المحمول، فقد أظهرت «سارة» تقريرا تقنيا مغايرا تماما لنتيجة التقرير الذى اعتمدت عليه المحكمة فى حكمها على «عدنان عام 1999. يفيد التقرير الجديد بأن المكالمات الواردة لا يمكن الاعتماد عليها لتحديد مكان الاتصال الجغرافى بشكل دقيق.

تم تحميل حلقات «Serial» أكثر من مئة وثمانين مليون مرة، وانشغلت الصحف الأمريكية لشهور بتحليل تفاصيل الحلقات والقضية، واستقصاء آراء القراء عن ما إذا كان «عدنان» مذنب أم برىء، وانشغلت أكثر لأيام عدة قبل الحلقة الأخيرة للبرنامج بتوقعات وسيناريوهات ما ستسفر عنه هذه الحلقة، وما إن كانت «سارة» ستوجه الاتهام لأحد المشتبه فيهم بقتل «هاى» أم لا.

بسبب هذا البرنامج تم تصنيف «سارة كْينج» كواحدة من أكثر مائة شخصية تأثيرا فى العالم لعام 2015 وفقا لمجلة «تايم» الأمريكية، وهى تستحقها بجدارة فقد قامت بإحياء قضية منسية منذ العام 1999 وشغلت بها المجتمع الأمريكى بأكمله، وبفضلها حصل «عدنان» على فرصة جديدة لإثبات براءته. شجع «بودكاست Serial» عشرات الآلاف من الأطفال والشباب على دراسة القانون والعمل به بفضل عرضه لمهمة المحقق بشكل مشوق وجذاب.

***

يظهر اهتمام المجتمع الأمريكى بالقضية فى صدور كتابين عن «عدنان» بعد برنامج «Serial”: صدر كتاب «أشيا ماكلين» كتابها بالفعل فى يونيو 2016 تحت عنوان «اعترافات شاهدة»، وسيصدر كتاب «ربيعة شدرى» فى أغسطس 2016 «قصة عدنان، البحث عن الحقيقة والعدل».

بفضل الزخم الإعلامى والشعبى الذى حظت به قضية «عدنان» بسبب بودكاست «Serial»، فاجأت «أشيا ماكلين» المجتمع الأمريكى بمثولها أمام المحكمة فى جلسة «طلب التماس إعادة محاكمة «عدنان» فى فبراير 2016 وتأكيدها لشهادتها التى أرسلتها فى خطاب إلى «عدنان» منذ ستة عشر عاما. ظهر أيضا «جاى» شاهد الإدانة فى القضية وأدلى بتصريحات جديدة للصحافة الأمريكية تناقض من جديد شهادته التى أدلى بها فى الماضى. قبلت المحكمة فى جلسة 30 يونيو 2016 إعادة محاكمة «عدنان سيد». وتداول المجتمع الأمريكى وأجزاء من العالم خبر الحكم بفرح عامر لأنهم شعروا أنهم جزء من تحقيق حلم شخص «قد» يكون بريئا. تابعوا أخبار موعد المحاكمة الجديد على الإنترنت، ومرنوا ذاكرتكم جيدا.. قد تحتاجونها لتذكر «واحد وعشرون دقيقة» ما فى حياتكم!
التعليقات