مستقبل التنمية فـــــــــى مصــــــــــــــر - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مستقبل التنمية فـــــــــى مصــــــــــــــر

نشر فى : الثلاثاء 4 مارس 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 مارس 2014 - 12:01 م

حيث انى اقتصادى (بحكم دراستى ومهنتى)، وأكتب من حين لآخر فى الشئون العامة، فكثيرا ما يوجه إلى السؤال الآتى: «كيف نخرج من أزمتنا الاقتصادية؟» أو أسئلة عن حل مشكلة اقتصادية بعينها، كمشكلة الدعم مثلا أو البطالة، أو عما إذا كان الاقتراض من صندوق النقد الدولى شيئا مفيدا لمصر أو غير مفيد..الخ

ورغم إدراكى لأهمية هذه الأسئلة، والدافع لإثارتها الآن، فإنى اعترف بأنى أجد نفسى، كلما سمعتها، فى حيرة بما أجيب. من أسباب هذه الحيرة ان الإجابات الصحيحة عن كل هذه الأسئلة ليست بسيطة بحيث يسهل اختصارها فى جملة أو جملتين، بل تحتاج إلى تفصيل قد لا يصبر عليه صاحب السؤال. ولكن السبب الأهم هو اعتقادى أن العائق الأساسى أمام حل مشاكلنا الاقتصادية ليس اقتصاديا، وهو ما لا يريد معظم أصحاب الأسئلة سماعه. انهم يوجهون سؤالا اقتصاديا إلى اقتصادى، ويريدون إجابة اقتصادية تشعرهم بأن من الممكن الخروج من المأزق الاقتصادى، وبسرعة إذا أمكن. ولكن رأيى، على العكس، ان الخروج من مأزقنا الاقتصادى يتطلب تحقق شرط معين ليس اقتصاديا، وهو شرط لم يتحقق لمصر منذ ما يقرب من نصف قرن (فلا عجب أن التنمية الاقتصادية متعثرة فى مصر منذ ما يقرب من نصف قرن)، ولا أرى فى الأفق ما يدل على أنه على وشك أن يتحقق. فكيف أنقل هذه الرسالة التى لابد أن تثير القنوط لدى كثيرين؟

•••

كثيرا ما كنت اختم محاضراتى فى التنمية الاقتصادية ببضع كلمات مازالت اعتقد فى صحتها، ويمكن ان ألخصها فى الآتى: «الحلول الصحيحة لمشاكل التنمية ليست مجهولة، ولا هى صعبة التنفيذ من الناحية الفنية. العقبة الأساسية أمام التنمية الاقتصادية تكمن فى خارج ميدان الاقتصاد، وهى ان أصحاب المصلحة الحقيقية فى تحقيق التنمية ليس بيدهم السلطة، وأن الذين بيدهم السلطة ليست لديهم مصلحة فى تحقيق التنمية».

فما سبب عدم اجتماع المصلحة فى التنمية والقدرة على تحقيقها؟ الإجابة تكمن فى رأيى فى كلمة واحدة: «التبعية». انى لا أحب اصطلاح «البقية»، لا فى اللغة العربية ولا فى غيرها من اللغات، (مثل dependence)، وذلك لأن الحقيقة التى يراد التعبير عنها بهذه الكلمة أفظع بكثير مما توحى به الكلمة. كانت كلمة «الاستعمار» فى الماضى تؤدى الغرض على نحو أفضل، ولكنها اختفت تقريبا من قاموسنا بسبب اعتقاد خاطئ بأن مدلولها قد اختفى من الوجود. قد تكون أهداف الاستعمار قد اعتراها بعض التغيير، ومن المؤكد ان وسائل تحقيق هذه الأهداف قد تغيرت أيضا، ولكن النتائج لم تتغير كثيرا، فالقهر مازال هو هو، وان كان قد أصبح أكثر نعومة من ذى قبل، ومازال فى حقيقته بشعا كما كان دائما. ومع ذلك فسأستمر فى استخدام لفظ «التبعية» مضطرا.

ان تاريخ التبعية فى مصر طويل. نعم، جاءت بعض الفترات التى أصبح من الممكن فيها الخروج من الجُحر أو القفص لبعض الوقت، قبل ان نُرغَم على العودة إليه من جديد. وفى فترات الخروج القصيرة هذه حققنا بعض المكاسب التى مازلنا نجنى ثمارها حتى الآن، ولكن هذه الفترات لم تدُم للأسف. وقد استمرت التبعية دون انقطاع منذ ما يقرب من الهزيمة العسكرية فى 1967، فعمرها الآن يقرب من نصف قرن. ومنذ ذلك الوقت لم ينقطع التساؤل عن: كيف نخرج من المأزق الاقتصادى أو تلك؟ بينما السؤال الحقيقى هو: ما هو السبيل للخروج من هذا الجُحر أو القفص الذى أجبرنا على الدخول فيه؟

أثناء ذلك ما أكثر ما عيّرونا، وعيّرنا أنفسنا، بمقارنة حالنا بحال دول أخرى مثل كوريا الجنوبية أو ماليزيا، أو الهند أو تركيا، ناهيك عن الصين. وكلها نجحت إلى حد كبير فى تحقيق تنمية كنا نتمنى مثلها لأنفسنا. الحقيقة ان كلا من هذه الدول توفرت لها ظروف، فى فترة أو أخرى خلال الخمسين عاما الماضية، سمحت لها بالخروج من سجن التبعية (لأسباب مختلفة فى كل حالة عنها فى الأخرى)، فإذا بها لا تواجه (فى الأساس) إلا بمشكلات «فنية» لا يصعب حلها على اقتصاديين، دون حاجة إلى أن يكونوا عباقرة أو فائقى الذكاء، ممن لا يندر وجودهم عندنا أيضا. عندما قامت هذه الدول بحل هذه المشكلات الفنية (مثل تحديد النظام الأمثل للضرائب، أو المعدل الأمثل للاستثمار، أو التوزيع الأمثل لهذه الاستثمارات.. الخ) انطلقت فى مسار التنمية، أما عندنا فمازلنا فى الانتظار.

انتظار ماذا بالضبط؟ ها قد قامت ثورة أو ثورتان خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فلماذا لا يبدو وكأننا تخلصنا من التبعية؟ لماذا كلما ظنّنا أننا خرجنا من السجن فوجئنا بأننا فى الحقيقة لم نغادره؟ هذه هى الأسئلة التى يجب أن نجد إجابة عليها، بدلا من الاصرار على الاستطراق فى أسئلة من نوع: كيف نخفض الدعم ولا نضّر بالفقراء فى الوقت نفسه؟ أو كيف نزيد من المشروعات الصغيرة التى تساهم فى حل مشكلة البطالة؟..الخ.

سأحاول أن أقنع القارئ برأيى، بتناول مشكلة كمشكلة الدعم لأبين أنه لا يمكن حلها طالما ظللنا فى سجن التبعية.

•••

نحن نسمع منذ أكثر من أربعين عاما من يقول لنا ان مشكلة الدعم مشكلة أساسية، ولا يمكن أن نتقدم اقتصاديا إلا بحلها. سمعنا هذا من الدكتور القيسونى عندما كان نائبا لرئيس الوزراء فى منتصف السبعينيات، ومن كل وزراء الاقتصاد بعد ذلك ولكن المشكلة كانت هينة جدا وسهلة الحل أيام الدكتور القيسونى، ثم أدى عدم علاجها إلى نموها وتوحشها حتى أصبح من المخيف الاقتراب منها. فلماذا عجزت الحكومات المتتالية عن حلها؟ السبب فى رأيى بسيط. وهو أن تقديم الدعم للفقراء هو أسهل طريقة لصرف نظرهم عن الفساد، أو بالأحرى لحملهم على الصبر عليه. ذلك ان من المستحيل حل مشكلة الدعم إلا إذا حُلّت مشكلة توزيع الدخل، وزيادة دخول الفقراء، وخلق فرص عمل مجزية، ولكن كل هذا يحتاج إلى انفاق وأموال، والأموال منهوبة ومسروقة. والذى سرقها يفضل أن يتنازل عن جزء صغير منها (فى صورة تقديم الدعم لبعض السلع الضرورية) عن أن يتنازل عنها كلها. ولكن السرقة والنهب لا يتمان إلا فى ظل حماية أجنبية، إذ إن تحقيق مصالح هذا الطرف الأجنبى على حساب الوطن لا يقبل القيام به إلا الطامعون فى السرقة والنهب. فكيف بالله نتخلص من هؤلاء إلا بالتخلص من التبعية؟

ما أقوله عن علاج مشكلة الدعم يمكن أن يقال عن علاج مشاكل كثيرة أخرى لابد من علاجها لتحقيق التنمية: من تدهور نظام التعليم إلى بطء التصنيع، إلى انخفاض الإنتاجية...الخ، لا تنمية حقيقية فى ظل هذا القدر من الفساد، ولا علاج للفساد إلا بالتخلص من التبعية.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات