ثقافة الإنترنت - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الخميس 30 مايو 2024 1:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثقافة الإنترنت

نشر فى : الإثنين 5 أبريل 2010 - 12:37 م | آخر تحديث : الإثنين 5 أبريل 2010 - 12:37 م

 كنت قد نويت الكتابة عن اليوم المصرى للمرأة من خلال قصيدة شهيرة للشاعر حافظ إبراهيم، وأثناء بحثى عن معلومات للموضوع على الإنترنت وجدت فى أحد المواقع مقالا عن قصيدة حافظ بعنوان «خرج الغوانى!» يبدأ على النحو التالى:

«شعارات براقة، وألفاظ رنانة، ومطالبات تشعر ظاهرها بالحق وفى باطنها باطل مستور وسم زعاف، ينتشر فى كيان الأمة فيهدم مستقبلها ويحطم أجيالها القادمة ويدمر آمالها، يقول حافظ إبراهيم:

«خرج الغوانى يحتججن
ورحت أرقب جمعنه   
فإذا بهن تخذن من
سود الثياب شعارهنه   
فطلعن مثل كواكب
يسطعن فى وسط الدجنه   
وأخذن يجتزن الطريق
ودار سعد قصدهنه   
يمشين فى كنف الوقار
وقد أبن شعورهنه   
وإذا بجيش مقبل
والخيل مطلقة الأعنة   
و إذا الجنود سيوفها
قد صوبت لنحورهـنه   
وإذا المدافع والبنـادق
والصوارم والأسنة  
والخيل والفرسان قد
ضربت نطاقا حولهنه   
والورد والريحان فى
ذاك النهار سلاحهنه   
فتطاحن الجيشان ساعات
تشيب لها الأجنة   
فتضعضع النسوان
والنسوان ليس لهن منه   
ثم انهزمن مشتتات
الشمل نحو قصورهنه

فهؤلاء النسوة صورهن شاعر النيل فى أسلوب ساخر خرجن بمسرحية هزلية أسفرت عن حقيقية مطالبهن التى كان ظاهرها المطالبة بخروج الاستعمار والتظاهر ضد الاحتلال، فخرجن عن فطرهن التى فطرهن الله عليها وأسفرن عن وجوهن وشعورهن وأبدانهن، وخلعن ثوب الحياء وتاج العفة والوقار بل أحرقنه إمعانا فى المكيدة والمخادعة والولاء للمحتلين!».

وصحيح أن للناقد الإيطالى الشهير أمبرتور إيكو كتابا تحمل ترجمته العربية عنوان «التأويل والتأويل المفرط» يفتح الباب أمام المتلقى للتفاعل الحر مع النصوص أثناء تفسيرها وفقا لثقافته وخبراته، لكن هذا التفاعل يبقى مشروطا بالارتكاز على النص ذاته دون إقحام شىء عليه لا يوجد فيه، أو حذف شىء منه يخل ببنيته الدلالية، ولهذا فمحاولة التفسير السابقة لا تدخل فى باب التأويل المفرط بل تدخل فى باب التأويل المغرض لأكثر من سبب.

حيث يبدأ هذا التأويل المغرض بعنوان المقال «خرج الغوانى!»، الذى يوحى فى ذلك السياق المذيل فيه بعلامة التعجب بالارتكاز على المعنى الشعبى المغلوط لكلمة «غانية» بوصفها مرادفا لكلمة متبرجة، على الرغم من أن الغانية فى اللغة هى المرأة المستغنية بجمالها عن الزينة والحلى.

أما تفسير الكاتب لمعنى الأبيات فيشير إلى أن هؤلاء النساء قد «أسفرن عن أبدانهن وخلعن ثوب الحياء وتاج العفة والوقار بل أحرقنه» ولا يوجد فى النص ما يشير إلى كشف الأبدان أو خلع الملابس أو حرقها، بل يوجد به ما يشير بوضوح إلى الاحتشام التام المتمثل فى الالتزام بـ«سود الثياب»، وفى قول الشاعر صراحة «يمشين فى كنف الوقار».

أما ادعاء الكاتب أن الشاعر يسخر فى قصيدته من تلك الكوكبة من النساء المتظاهرات فهو ادعاء كاذب يقوم على تزوير بين يهدف إلى تزييف وعى القارئ، حيث قام الكاتب بحذف الأبيات الأربعة الأخيرة من قصيدة حافظ والتى يقول فيها:

فليهنأ الجـيش الفخور
بنصره وبكسرهنه  
فكأنما الألمان قد
لبسوا البراقع بينهنه  
وأتوا بهندنبرج
مختفيا بمصر يقودهنه
  فلذاك خافوا بأسهن
وأشفقوا من كيدهنه

حيث يتضح من هذه الأبيات أن الشاعر يسخر سخرية مرة من الإنجليز وليس من النساء المتظاهرات، ويكفى أن تعلم أن الشاعر الذى كتب هذه القصيدة عقب مشاركة النساء فى الثورة الوطنية عام 1919 لم يتمكن من نشرها حينئذ إلا فى منشورات وطنية، وكان نشرها الأول بالصحافة فى 12مارس 1929 أى بعد عشرة أعوام كاملة من كتابتها. كما أن التفسير المغلوط للنص بأن الشاعر يسخر من النساء المتظاهرات مطالبة بالاستقلال يعنى ضمنا تأييده للاحتلال الإنجليزى، وهو ما لا يمكن قبوله على شاعر النيل حافظ إبراهيم.

وأرجو ألا يفوتك قول الشاعر فى الأبيات السابقة المحذوفة من المقال المغرض «لبسوا البراقع» لتعرف أن هؤلاء النساء كن يرتدين البراقع أيضا، لكن جريمتهم النكراء لدى الكاتب هى كشف شعورهن أثناء المظاهرة، على الرغم من أن كشف شعور النساء فى المصائب وبخاصة عند الندب على الميت طقس شعبى متغلغل فى الريف المصرى لا علاقة له بالتفرنج أو التبرج.

أما وصف كاتب المقال لمظاهرة النساء بأنها مظاهرة هزلية تدعى العداء للمحتل على الرغم من ولائها له، فهو قول متبجح على التاريخ، لأنه فى يوم 16 مارس عام 1919 خرجت المرأة المصرية منادية بسقوط الاستعمار، وسقطت أول شهيدة برصاص الإنجليز أمام مسجد الحسين وهى السيدة حميدة خليل، وسقطت وراءها الشهيدات نعيمة عبدالحميد وفاطمة محمود ونعمات محمد وحميدة سليمان ويمنى صبيح، ولهذا تم اختيار يوم 16 مارس ليكون هو يوم الاحتفال الوطنى بالمرأة المصرية.

وهنا تنتقل المقالة من ساحة التفسير الخاطئ لقصيدة إلى ميدان التزييف المتعمد للتاريخ. ولما كان شباب اليوم يفضلون العودة إلى الإنترنت بوصفه مصدرا وحيدا للمعلومات لديهم، فإن مقالة كهذه يمكن أن تضلل آلاف الشباب الذين يدخلون إلى هذا الموقع الذى يدعى التسربل فى أثواب الدين وبث النصائح الغالية على المتصفحين له.

وليس أمامنا سوى بذل الجهد المخلص فى تنمية الوعى النقدى لدى الشباب حتى يتمكنوا من التفرقة بين الغث والثمين، وأن يأخذوا من كل شىء جانبه الإيجابى دون التأثر بتداعياته السلبية.

والاتساع فى القراءة الواعية على الإطلاق هى السبيل الوحيدة لهذه الاستنارة، فحتى هذا المقال الذى اختلفت معه قد أفدت منه، حيث لم أجد تعليقا عليه أفضل من مقدمة كاتبه التى يقول فيها: «شعارات براقة، وألفاظ رنانة، ومطالبات تشعر ظاهرها بالحق وفى باطنها باطل مستور وسم زعاف، ينتشر فى كيان الأمة فيهدم مستقبلها ويحطم أجيالها القادمة ويدمر آمالها».

التعليقات