حكايات الجدران - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 5:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكايات الجدران

نشر فى : الخميس 7 يناير 2010 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 7 يناير 2010 - 9:25 ص

 تصاعد الجدل السياسى فى مصر فى الآونة الأخيرة حول ظاهرة اختلف فى تسميتها بين الدوائر المستقلة والمعارضة من ناحية والحكومة المصرية من ناحية أخرى. تتحدث هذه الدوائر عن جدار فولاذى عازل تقيمه الحكومة المصرية على الحدود بين مصر وغزة بحيث يمتد فى باطن الأرض ليمنع نهائيا ظاهرة حفر الأنفاق عبر هذه الحدود، ويكمل حلقات الحصار الجائر حول غزة، فيما تتحدث الحكومة عن إنشاءات هندسية لا تحدد طبيعتها،

وإن أقرت بأن الغرض منها هو القضاء على ظاهرة الأنفاق على أساس أنها أصبحت معبرا لتهريب المخدرات والأسلحة وعبور الإرهابيين ومن ثم مصدرا خطيرا لتهديد أمن مصر..

وتستند الحكومة فى موقفها إلى خاصية السيادة، منكرة أن يكون عملها موجها ضد أهل غزة، فهم فى حبات العيون.

يلاحظ أن الحجة الأساسية للحكومة المصرية غير واضحة بما يكفى، فهى لم تطرح على الرأى العام قضايا محددة ضُبط فيها إرهابيون يتسللون إلى مصر، أو اكتشفت فيها عمليات تهريب سلاح أو مخدرات،

وحتى فى قضية خلية حزب الله التى ما تزال منظورة أمام القضاء المصرى فإن الاتهام قد وجه لأفراد كانوا يتحركون على الأرض المصرية وليس عبر الأنفاق،وهم حتى إن فعلوا كانوا يهربون السلاح والذخائر من مصر لغزة وليس العكس، ومع ذلك فلا شك أن ظاهرة الأنفاق واستخدامها فى التبادل التجارى أو فى أغراض عسكرية أو إجرامية تمثل وضعا غير طبيعى فى العلاقات بين الدول..

صحيح أن التهريب يتم عبر أى حدود دولية بين بلدين، غير أنه يبدو فى حالة الأنفاق شبه مقنن، والسماح باستمراره يشكل ممارسة غير معتادة، خاصة فى ظل ظروف بالغة الحساسية.

لكن المعضلة أن التهريب لا يتم عبر الأنفاق بين مصر وغزة فقط، وإنما هو يتم عبر كل الحدود الدولية لمصر (كما هو الحال بالنسبة لكل الدول) دون أن يستدعى هذا إقامة «منشآت هندسية»، وقد يقال إن التهريب فى حالة الأنفاق بلغ مستوى لا يمكن السكوت عنه، غير أن هذا يطرح على الفور التهريب عبر الحدود الإسرائيلية ــ المصرية التى أشارت دراسات وتقارير كثيرة إلى أنها صارت مصدرا رئيسيا لإغراق مصر بالمخدرات، وربما تجاوز الأمر إلى ما هو أخطر، غير أن هذه الحدود بموجب معاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية تحميها مئات قليلة من الجنود قدر عددهم بأكثر قليلا من أربعمائة جندى لأكثر من مائتى كيلومتر، بواقع جندى واحد لكل نصف كيلومتر من الحدود!

وقد أخفقت الحكومة المصرية حتى الآن فى إقناع إسرائيل بتعديل طفيف فى المعاهدة يسمح بزيادة هذا العدد زيادة معقولة، مع أن هذه الزيادة فى صالح الطرفين إن خلصت النوايا، علما بأن إسرائيل تسمح لنفسها بانتهاك منتظم لمعاهدة السلام من خلال إغاراتها المستمرة على مواقع الأنفاق على الحدود المصرية مع غزة مباشرة، وهى منطقة يفترض أن تكون منزوعة السلاح بموجب معاهدة «السلام»، ناهيك عن أن تكون مسرحا لعمليات عسكرية.

ولعل النتيجة المخيفة لهذا كله أنه يعنى عمليا على الأقل أن العقيدة الأمنية المصرية صارت تعتبر غزة وليست إسرائيل هى مصدر التهديد الرئيسى لأمن مصر، وهو أمر لا يعقله أحد.

اتسم الجدل الخطير حول هذه القضية الخطيرة بفجاجة ظاهرة ناهيك عن السطحية، واتُهم المعارضون لبناء الجدار أو «المنشآت الهندسية» بأنهم يريدون استباحة الأمن الوطنى لمصر،

ولم يحدث نقاش عام معلن للقضية فى مجلس الشعب مما أدى إلى مزيد من الاحتقان بين الحكومة والقوى المستقلة والمعارضة، وأُقحمت المؤسسات الدينية الرسمية فى الجدل السياسى كالعادة، فخرجت علينا بفتوى سريعة سبق إصدار ما يشبهها فى مناسبات مماثلة تؤيد سلوك الحكومة المصرية، ولا أدرى إن كان مجمع البحوث الإسلامية الذى صدرت عنه هذه الفتوى فى ملابسات أحاط بها الغموض يستطيع أن يكرر فتواه فى السادس من مارس عام1970بأن العمل الفدائى ضرب من أهم ضروب الجهاد المشروعة،

ولو قيل إن الظروف قد تغيرت الآن عما كانت عليه منذ أربعين عاما فهل يليق بالمؤسسات الدينية أن توظف الدين حسب الظروف؟ ألا يضعف هذا من الثقة فى صدقيتها بحيث يتآكل تدريجيا دورها الذى يفترض أن يكون مبادرا ورياديا فى توجيه شئون البلاد والعباد، خاصة أن ثمة فتاوى مضادة داخل مصر وخارجها عارضت ما انتهى إليه مجمع البحوث الإسلامية؟

وهل نستغرب بعد ذلك ظاهرة «تشرذم» الفتوى التى تعكس عدم الثقة بالمؤسسات الدينية التى يفترض أن تكون لها المرجعية الأولى فى الشأن الدينى؟ ألا يدعونا هذا إلى تمنى الفصل بين هذه المؤسسات وبين «الإفتاء السياسى» طالما أنه على الدوام يسير فى الخط الموازى للخط الرسمى،بما فى ذلك الانقلاب بين الشىء ونقيضه كما حدث فى الموقف تجاه الصراع مع إسرائيل قبل معاهدة السلام معها وبعد هذه المعاهدة؟

لكننا فى النهاية سنسلم من أجل الوصول إلى «كلمة سواء» بأن الأنفاق ظاهرة غير طبيعية، وأنها قد تمثل خطرا على الأمن المصرى سواء بما يمكن أن يُهرب عبرها، أو من خلال استفزاز إسرائيل للقيام بعمل يضع الحكومة المصرية فى وضع لا تريده، الأمر الذى يعنى أن إقامة» منشآت هندسية» على الحدود المصرية مع قطاع غزة لها ما يبررها.

غير أن النقاش لا يمكن أن يقف عند هذا الحد وإلا أصبحنا كمن ينظر إلى قمة جبل الجليد ويغض النظر عما دونها، ذلك أن تفشى ظاهرة الأنفاق دالة فى الحصار على غزة،

وكلما اشتد الحصار زاد الطلب على الأنفاق ليس لتهريب المخدرات والسلاح والأفراد وإنما لتزويد القطاع باحتياجاته من السلع الأساسية التى لا يمكن استمرار الحياة بدونها، وعلى رأسها الغذاء والدواء.

ولذلك فإن الحل الأسهل والأكثر تحقيقا لأمن مصر هو العمل الجاد على رفع الحصار،ليس بمطالبة إسرائيل بأن ترفعه، فهى لن تفعل ذلك لأسباب لا تخفى على أحد، وإنما بكسره من خلال السماح بمرور الاحتياجات الأساسية عبر معبر رفح، وسوف يحظى هذا العمل بغطاء قانونى قوى توفره اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التى كانت مصر من أوائل الدول الموقعة عليها، والتى تحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب،

وتحظر كذلك مهاجمة أو تدمير و«تعطيل» المواد التى لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية،وتساوى اتفاقية جنيف هذه من حيث قيمتها القانونية ألف اتفاقية من نوع اتفاقية المعابر لعام2005، وتستطيع السلطات المصرية إمعانا فى توفير غطاء قانونى لهذا المسلك المقترح أن تدعو من تشاء لكى يراقب مرور الأغذية والأدوية وغيرها من الاحتياجات الأساسية عبر معبر رفح،

وقد سمحت بذلك من قبل فلماذا لا تسمح به على نحو منتظم؟ ولا شك فى أن جهات دولية عديدة محترمة مستعدة للمشاركة فى عملية الرقابة هذه بعد أن بلغ السيل الزبى، وبذلك لا يبقى للأنفاق من وظيفة سوى ما تقوله الحكومة المصرية الآن، أى تهريب المخدرات والسلاح وعبور الإرهابيين، ويسقط أباطرة تجارة الأنفاق الذين يمتصون دماء الشعب الفلسطينى.

وما لم تفعل الحكومة المصرية ذلك فإن أمن مصر يمكن أن يهدد بطرق أخرى ربما تكون غير مباشرة أو فى الأمد غير المنظور. وسوف يكون هذا التهديد أخطر بكثير من تهريب أسلحة أو مخدرات أو مرور إرهابيين عبر الأنفاق،

ففى النهاية يقف رجال الأمن المصريون بالمرصاد لهذه العمليات، غير أن كسب عداء أهل غزة الذين سيسهل إقناعهم بأن السياسة المصرية تتحمل مسئولية لا لبس فيها عن تجويعهم سوف يجعل من القطاع قنبلة موقوتة فى بنية الأمن الوطنى لمصر فيما يجب أن يكون عمقا لهذا الأمن، ولو صح ما يقال من أن الحكومة المصرية تعاقب حماس وتحرجها أمام أهل القطاع بما تقيمه من منشآت هندسية فيجب أن يكون معلوما أن استمرار الحصار واشتداده، ووضوح مسئولية القوى الخارجية عنه يمكن أن يزيدا من شرعية حماس داخل القطاع، ناهيك عن أنها تملك أصلا قاعدة واسعة من التأييد الشعبى.

فى التاريخ المعاصر لدينا عدد محدود من حكايات «الجدران» أو«المنشآت الهندسية». تبدأ الحكايات بخط موريس المكهرب نسبة إلى اندريه موريس وزير الدفاع الفرنسى (آنذاك) الذى بدأ العمل فيه فى نهاية عام1956بغرض عزل المجاهدين الجزائريين عن قواعد إمدادهم عبر حدودهم مع تونس بطول مئات الكيلومترات من الأسلاك المكهربة بقوة12000فولت وعرض عشرات الأمتار، وفى 1959بدأ بناء خط ثانٍ مماثل باسم «شال» (قائد القوات الفرنسية فى الجزائر بين سنتى 1959 و1960)خلف الخط الأول لدعمه مع إضافة حقل ألغام بعرض12 ــ 400 متر.

تستمر حكايات الجدران فتروى لنا عن جدار برلين الذى أقامه النظام الشيوعى فى ألمانيا الشرقية ليعزل برلين الغربية عن برلين الشرقية منعا لعمليات الهروب من «جنة الاشتراكية» إلى «جحيم الرأسمالية».

بلغ الجدار طولا ما يزيد على المائة وخمسة وستين كيلومترا مع أكثر قليلا من مائتى برج مراقبة وتدعيم لبعض أجزائه بأسلاك شائكة يزيد طولها على الخمسة وخمسين كيلومتر.. وقام بحراسة الجدار أربعة عشر ألف جندى معززين بستمائة كلب بوليسى. وفى مطلع القرن الحالى بدأت إسرائيل بناء جدار الفصل العنصرى الذى نعرفه جميعا بطول مئات الكيلومترات فى محاولة للحماية من هجمات المقاومة، وتوضيح مبكر لشكل التسوية الشوهاء كما تريدها إسرائيل.

استمرت حرب التحرير الجزائرية فى تصاعدها رغم خطى موريس وشال المكهربين حتى حققت الاستقلال للجزائر بعد أقل من سبع سنوات على إنشاء خط موريس وأقل من ثلاث سنوات على إنشاء خط شال، ولم يفلح جدار برلين فى منع الهاربين إلى «جحيم الرأسمالية»،

إذ نجح ما يزيد على الخمسة آلاف شخص فى تسلقه والهروب إلى برلين الغربية قبل أن ينهار تماما فى 1989بعد سقوط النظام الشيوعى فى ألمانيا الشرقية، وحظى جدار الفصل العنصرى فى إسرائيل بدرجة غير مسبوقة من الرفض العالمى توجتها محكمة العدل الدولية بفتوى لا تجيز إقامته، وهو مازال بانتظار مصيره التاريخى المحتوم.

وكم يتمنى المرء أن يدرك المسئولون المصريون الذين بلغ حماسهم لفكرة «المنشآت الهندسية» على حدود مصر مبلغه شعور الانسحاق الذى يغمر المواطن العادى عندما يرى بلده الحبيب ضمن قلة من البلدان لا يبلغ عددها أصابع اليد الواحدة يلجأ لهذا الأسلوب فى سعيه المشروع لحماية حدوده فيما كانت المساعى التى ترويها حكايات الجدران مختلفة جذريا عن الحالة المصرية.. وهى بهذا المعنى مهينة لتاريخ مصر وسجلها الوطنى والقومى المشرف.

أتراهم يدركون أيضا أن إصرارهم على المضى قدما فى إقامة «المنشآت الهندسية» على الحدود مع غزة يستوجب منهم فى الوقت نفسه أن يقوموا بعمل فاعل من أجل كسر الحصار على غزة؟ وإلا فما جدوى الحديث عن دروس خبرة ماضية نستقيها من حكايات الجدران؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية