قراءة جديدة لحكاية قديمة - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 6:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قراءة جديدة لحكاية قديمة

نشر فى : الإثنين 7 يونيو 2010 - 9:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 يونيو 2010 - 9:40 ص

 كل قراءة ترتبط بكتابة يقرأها المتلقى، وكل كتابة ترتبط بقراءة سابقة قرأها المبدع واختزنها فى ذاكرته قبل أن يعيد إنتاجها مرة أخرى.

وقد تتم إعادة الإنتاج بصورة غير واعية لنصوص منطمسة لا يتذكرها المبدع ولا يستطيع القارئ اكتشافها، وقد تمثل الكتابة قراءة جديدة واعية من المبدع لنص قديم معلوم يعيد صياغته برؤية مغايرة.

وللشاعر صلاح عبدالصبور قصيدة عنوانها «حكاية قديمة» صاغها بحرفية عالية تحاول دفع المتلقى إلى الاقتناع بتفسير جديد للحكاية القديمة، حيث يقول فى بدايتها:
كان له أصحاب
وعاهدوه فى مساء حزنه
ألا يسلموه للجنود
أو ينكروه عندما
يطلبه السلطان
فواحد أسلمه لقاء حفنة من النقود
ثم انتحر
وآخر أنكره ثلاثة قبل انبلاج الفجر
وبعد أن مات اطمأنت شفتاه
ثم مشى مُكَرِّزا مفاخرا بأنه رآه
وباسمه صار مُبَارِكا مُعَمِّدا

فالشاعر لم يصرح بأسماء الشخصيات الثلاث محور الحكاية، لكنه اكتفى بذكر موقف الصاحبين من البطل المجهول، ومنح القارئ مجموعة مفاتيح متوالية تمكنه من التعرف على شخصيات الحكاية.

أول هذه المفاتيح هو العنوان «حكاية قديمة»، الذى يدفع المتلقى قبل بداية القراءة إلى إنعاش ذاكرته تمهيدا للبحث عن هذه الحكاية القديمة فربما كان يعرفها.

أما المفتاح الثانى فيتمثل فى قوله «مساء حزنه» الذى يستلهم قول السيد المسيح لرفاقه قبل بداية العشاء الأخير «نفسى حزينة حتى الموت». ويلاحظ القارئ أن صياغة الشاعر الحديثة «مساء حزنه» تقدم على المستوى اللغوى معادلا رمزيا يطابق تسمية «العشاء الأخير»، حيث توازى كلمة «عشاء» كلمة «مساء»، ويعادل وصف العشاء بأنه «أخير»، وصف المساء بأنه «حزين»، فعندما يقول الشاعر «وعاهدوه فى مساء حزنه» فكأنه قد قال تماما «وعاهدوه فى عشائه الأخير».

أما المفتاح الثالث فيتمثل فى ذكر وعد كلا الصديقين بعدم تسليم البطل أو إنكاره، والأول هو وعد يهوذا، والآخر هو وعد بطرس الذى قال للسيد المسيح «ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك».

أما المفتاح الرابع فيتمثل فى ذكر موقف كلا الصديقين من بطل الحكاية ليلة العشاء الأخير، حيث أسلمه يهوذا لقاء حفنة من النقود، وأنكره بطرس ثلاث مرات قبل صياح الديك كما تنبأ السيد المسيح، فعن المرة الأولى يقول الكتاب المقدس: «أما بطرس فكان جالسا خارجا فى الدار، فجاءت إليه جارية قائلة وأنت كنت مع يسوع الجليلى. فأنكر قدام الجميع قائلا لست أدرى ما تقولين».

وعن المرة الثانية يقول: «ثم خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك وهذا كان مع يسوع الناصرى. فأنكر أيضا بقسم أنى لست أعرف الرجل». وعن المرة الثالثة يقول: «وبعد قليل جاء القيام، وقالوا لبطرس حقا أنت أيضا منهم فإن لغتك تظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف أنه لا يعرف الرجل، وللوقت صاح ديك. فتذكر بطرس كلام يسوع المسيح».

أما المفتاح الخامس فيتمثل فى موقف كلا الصديقين بعد أن خذلا صديقهم،حيث انتحر يهوذا ندما على ما فعل وشنق نفسه فى شجرة فور أن واجهه المسيح قائلا: «أبقبلة يا يهوذا تسلم ابن الإنسان»، فقد كان الكهنة الذين أرادوا قتل المسيح لا يعرفونه من بين المجتمعين، وكانت إشارة تحديد شخصيته لهم لقتله هى قبلة يهوذا.

أما بطرس الذى أنكر معرفته بالمسيح ثلاث مرات قبل انبلاج الفجر، فقد اتجه بعد أن هدأت الأوضاع إلى الكرازة والتبشير، حيث يضم الكتاب المقدس فى نهايته رسالتين من رسائله التبشيرية تحت عنوان «رسائل بطرس الرسول»، وقد لقب بهذا اللقب بوصفه تلميذ المسيح ورسوله إلى غير المهتدين.

أما المفتاح السادس والأخير فهو مفتاح لفظى يتمثل فى كلمتى: «مكرزا» و»معمدا»،اللتين يجبران المتلقى على العودة للتفتيش عن أصل هذه الحكاية القديمة فى التراث المسيحى إذا كان لم يتذكرها حتى نهاية المقطع.
وعلى الرغم من كل هذه المفاتيح، فقد يصادف النص قارئا لا يعرف تلك الحكاية أساسا أو لا يجيد فك مغاليقها، وسيتعامل هذا القارئ مع النص على أنه يقدم قصة متخيلة عن أشخاص عاديين، وسيواصل قراءة المقطع الثانى والأخير من القصيدة وفقا لهذا التصور، حيث يقول الشاعر:
والآن يا أصحاب
أسألكم سؤال حائر
أيهما أحبه؟
من خسر الروح فأرخص الحياة
أم من بنى له معابدا،
وشاد باسمه منائر
قامت على حياة
نجت لأنها تنكرت
والآن يا أصحاب
أيهما أحبه؟
أيهما أحب نفسه؟
أيهما أحبنا؟

وعندئذ ستقع المفارقة المفجعة، حيث ستأتى إجابات هذا القارئ الذى لا يعرف تلك الحكاية القديمة عن أسئلة الشاعر على نحو مختلف تماما عن ما هو راسخ فى ذهن من عرفها، حيث سيصبح من أحب صديقه هو من انتحر ندما على خيانته «يهوذا»، ومن أحب نفسه هو من استفاد من علاقته بصديقه الذى تخلى عنه فى محنته «بطرس»، ويبقى الذى أحبنا فى تفسير من يعرف الحكاية القديمة ومن لا يعرفها أيضا هو ضحية الغدر والخيانة «السيد المسيح».

ولو صرح صلاح عبدالصبور بأسماء شخصياته لعرفها الجميع، ولم يستطع أحد الفكاك من المعادل الدلالى الدينى لصديقى البطل فى الوعى الجمعى، فيهوذا خائن وبطرس رسول.

لكن صلاح عبدالصبور قد برع فنيا فى الخروج بالحكاية عن سياقها الدينى الخاص وتحويلها إلى سياق إنسانى دنيوى عام، كما أنه لم يتورط فى إصدار أحكام أو فى التصريح بوجهة نظر تخالف الرؤية الدينية داخل النص، لكنه فعل كل شىء يمكن أن يمهد للقارئ الذى لا يعرف الحكاية القديمة ــ وربما الذى يعرفها أيضا ــ التورط الكامل فى إجابات جديدة عن الأسئلة التى وضعها على الحكاية القديمة فى ختام قصيدته، لكن حتى هذه الإجابات تبقى محلقة فى فضاء النص وذهن المتلقى، بعيدا عن أى مسئولية مباشرة على المبدع المحترف.




التعليقات