فى العيد الــ100 لميلاد نجيب محفوظ.. نجوم السينما فى سفينة سيد الرواية المصرية - كمال رمزي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 6:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى العيد الــ100 لميلاد نجيب محفوظ.. نجوم السينما فى سفينة سيد الرواية المصرية

نشر فى : الأربعاء 7 ديسمبر 2011 - 9:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 7 ديسمبر 2011 - 9:45 ص

100 عام مضت على ميلاد الأديب المصرى «نجيب محفوظ»، ذلك الأديب العالمى الذى أثرى الحياة الأدبية والفنية من خلال شخصيات ذات مواصفات خاصة، تلامس طبائع ومكونات البشر فى كل مكان، لها مفرداتها العميقة التى تجسد حالات شديدة الإنسانية، وأغدقت شخصيات نجيب محفوظ على العديد من النجوم طاقات خصبة ليتألقوا ويبدعوا ويبهروا، عبر أعمال عاشت ومازالت فى وجدان المشاهد العربى، وهنا نستكشف معا بعض ملامح هذه الشخصيات ونجومها.

 

فقرة واحدة، وأحيانا جملة قصيرة، عند نجيب محفوظ، تضىء عند الممثل العالم الداخلى للشخصية التى سيؤديها. تجعل الممثل يتفهم الأبعاد النفسية للنموذج البشرى الذى سيعبر عنه، وليست مصادفة أن يصل الكثير من الفنانين إلى أفضل مستوياتهم حين تسند لهم أدوار أبطال روايات نجيب محفوظ، سواء الرئيسية أو الثانوية.. صحيح، كاتبنا يهتم بالتفاصيل ذات الدلالات، تعبر عن واقع اجتماعى وسياسى واقتصادى، سواء على مستوى المجتمع أو الفرد، ولكن لا يمكن إغفال ما تتسم به بعض عباراته من القدرة على الإمساك بجوهر الشخصية، وإدراك ظلالها، والوصول إلى أغوارها، لذا ليست مصادفة أن يتحدث الممثل عن نجيب محفوظ أكثر مما يتحدث عن كاتب السيناريو والمخرج، وهذا لا يقلل من شأنهما، ولكن يشير بوضوح إلى تلك الطاقة الكبيرة القادمة من صفحات الروائى، التى تفوق طاقة كل من كاتب السيناريو والمخرج، بل تجعل عمل كل منهما ينهض على أساس راسخ من الفهم.. وكل هذا يصب فى طاحونة الممثل الذى تجده، غالبا، يتألق فى الأفلام المعتمدة على نجيب محفوظ، على نحو أفضل مما تجده فى أعمال أخرى.

 

دخل نجيب محفوظ عالم السينما من خلال بوابة صلاح أبوسيف، فى أواخر الأربعينيات، حين أسند له أبوسيف مشاركته فى «المنتقم» 1947، و«مغامرات عنتر وعبلة» 1948، و«لك يوم يا ظالم» 1951.. وبعد عدة عقود، دخلت السينما عالم نجيب محفوظ، فلأول مرة تقدم إحدى رواياته على الشاشة الفضية، عن طريق صلاح أبوسيف أيضا، حين حقق «بداية ونهاية» 1960.

 

نقديا استقبل الفيلم بترحاب، وتوقف المعلقون طويلا عند الأداء الجيد لمعظم الممثلين، خاصة سناء جميل، فى دور «نفيسة»، وفريد شوقى فى دور «حسن أبوالروس».

 

سناء جميل، نجمة المسرح المرموقة، لم يكن لها حظ على شاشة السينما، فيما قبل «بداية ونهاية»، فخلال ما يقرب من العشر سنوات، منذ ظهرت فى دور هامشى، فى فيلم متواضع، عنوانه «طيش الشباب» لأحمد كامل مرسى 1951. شاركت فيما يزيد على العشرين فيلما، لم تلفت الأنظار... لكن، مع «بداية ونهاية» تغير الوضع تماما.. كتب فاروق القاضى، فى جريدة المساء 26 أكتوبر 1960 «كانت تمثل بعينيها وشفتيها، بل بكل خلجة من خلجاتها».. وبلغة أحمد حمروش، فى جريدة الجمهورية 5 نوفمبر 1960، جاء: «سناء جميل، لعبت دورها بإتقان الممثلة التى تفهم طبيعة الدور، وتستطيع بأدائها أن تصل إلى القلوب».. هكذا نقد الممثل فى الستينيات، وبالضرورة بحكم التطور، أصبح أكثر نضجا وتفصيلا، وتحول الانطباع العام إلى نوع من القراءة المتأملة، فبعد أكثر من ثلاثة عقود من ظهور الفيلم، يكتب الناقد حسن عطية، فى الكتاب الذى صدر عنها، بمناسبة تكريمها فى المهرجان القومى 19 «...تحب الأخ الأصغر المتطلع ــ حسنين ــ وتتعاطف مع الأخ الأوسط المسالم ــ حسين ــ ولا تكره الأخ البلطجى ــ حسن ــ وتتداخل فى شبكة علاقاتهم، وإن مالت أكثر إلى أخيها ــ حسنين ــ لأنه يمثل لها الفعل العاجزة هى عن تحقيقه، بحكم ظروف الواقع الاجتماعية والأخلاقية المحيطة بالبنت المصرية وقتذاك، ولذا كان لقاؤها معه همسا، ومنحها إياه النقود سرا، والتصاقها به داخل الكادر التصاقا حميما، وفرحها به وهو قادم بالبذلة الرسمية فرحا حسيا، وحركتها الوئيدة على ماكينة الخياطة، وبين جدران البيت المتهالك، بملابسها السوداء الكالحة، ونظراتها الحائرة والمنتقلة بانفعال بين أفراد أسرتها وماكينة الخياطة المنكبة عليها، وقرارها الأخير بالموت قذفا للجسد فى مياه النيل بليل دامس، خلاصا مزدوجا لها من شعور بلا إثم من خطيئة العهر، وخلاصا لأخيها من ورطته باكتشاف سقوط أخته وهو الضابط المتباهى» (1).

 

صحيح، لمسات صلاح أبو سيف واضحة، فى تحريك بطلته، داخل المكان، واقترابها وابتعادها من بقية الأشخاص، على النحو الذى ذكره حسن عطية.. ومن الإنصاف الاعتراف بقوة الإيحاءات النفسية المرهفة التى ترجع للمصور كمال كريم، الذى جعل الجدران تنطق بالمعانى، حتى أن مكان ساعة الحائط التى تم بيعها، يظل مختلفا فى لونه الفاتح عن بقية الجدار.. إنه، طوال الفيلم، وبدرجات متفاوتة، يحيط نفيسة بالظلام، حتى أن الكثير من مشاهدها تدور ليلا، ولكن إبداع الممثلة هنا هو الأوضح، وهو وإن كان يعبر عن موهبة سناء جميل، إلا أن الإمساك بالشخصية، يأتى من نجيب محفوظ الذى منح الممثلة مفتاح بطلة الرواية، بجملة محكمة، حاكمة، يقول فيها إنها تدرك، على نحو مأساوى، وضعها كفتاة «بلا مال ولا جمال ولا أب».. ست كلمات، سارت سناء جميل على هديها، امتلأت بها داخليا، وحددت شكل وطريقة وسلوكها، وحركتها، ونظراتها، وردود أفعالها. إنها لم تضحك من قلبها طوال الفيلم، وحتى حين مارست الجنس مع ابن البقال، لا يظهر على وجهها أى أثر للنشوة، ولو عابرة. وعندما تثور وتغضب، لا تجد أمامها سوى مرآة، تعكس وجهها، فتبصق عليه وتمسك بعلبة صلبة، تقذفها لتهشم المرآة، وكأنها تريد تحطيم حقيقتها كفتاة تعيسة «بلا مال ولا جمال ولا أب».. وفى مشهد النهاية، عقب خروجها من قسم الشرطة، حيث قبض عليها بتهمة الدعارة، تسير خلف شقيقها، حسنين، ضابط الجيش، مستسلمة، ذليلة، يكاد وجهها، فى لمسة إبداعية بارعة، أن يشفق عليه أكثر من قلقها على نفسها. وبإيعاز منه، ولأنها تدرك هوان شأنها، تلقى بجسدها فى مياه النيل، من دون تردد.

 

جدير بالذكر، فى ذات الفيلم، أن الممثلين عموما، وصلوا إلى أفضل مستوياتهم، خاصة فريد شوقى، الذى أدى دور ابن الأسرة الكبير، الفاشل، حسن، «ابن الشارع»، المهيأ للإجرام، المستعد للانحراف فى كل السبل، لكن نجيب محفوظ، صاحب الخبرة العميقة بالبشر، يرى فى أغوار «حسن» المظلمة، بصيصا من نور، يجسده الروائى فى عشر كلمات «كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة التى يخفق بها قلبه». وبهذه الجملة الموجزة، لم يعد فريد شوقى، فى الفيلم، مجرد بلطجى، أو قواد، أو تاجر مخدرات، فثمة بعد إنسانى جعل للشخصية سحرها الخاص، لا تتجسد فقط فى الموقفين المؤثرين بين فريد شوقى، وشقيقه الانتهازى حسنين، ضابط الجيش ــ بأداء عمر الشريف ــ حيث يمنح أولهما نقودا، للثانى، كمصاريف لدخول الكلية، ثم، بعد تخرجه، يطالب شقيقه الكبير، بترك العالم السفلى.. تعمد صلاح أبو سيف ألا يجعلهما فى مواجهة بعضهما، أو بجانب بعضهما، فكل منهما يقف فى مفترق. عمر الشريف يطالعنا بجانب وجهه الأيمن. فريد شوقى فى مواجهة الكاميرا. ويتجلى إبداع الممثل فى نظرة فريد شوقى التى تدرك ما تنطوى عليه أعماق شقيقه من عفن، فيضعه فى اختبار صعب، يوافق على شرط أن يخلع بذلته العسكرية، ويبدآن حياة جديدة، وبلا تردد، يرفض عمر الشريف. هنا، تخلو نظرة فريد شوقى من الغضب والكراهية. فقط، درجة ما من الأسى، ممتزجة بخبرة عميقة بالحياة، فهو يدرك ما الذى سيختاره هذا الشقيق... لكن الموقف الأهم، وربما الأعمق تأثيرا، فإنه يأتى قرب النهاية، فبعد أن تضيق بفريد شوقى كل السبل، وتتعقبه الشرطة، ويتربص به خصومه، يلجأ جريحا، مشجوج الرأس مرتديا جلبابا، إلى أسرته.. وها هو، على الفراش، ينظر لوالدته الحانية، كما لو أنه طفل يطلب الحماية.

 

بعد عامين من «بداية ونهاية» الذى أعتبر من عيون السينما المصرية، عرض «اللص والكلاب» لكمال الشيخ، الذى رشح شكرى سرحان، قبل التنفيذ، كى يجسد شخصية سعيد مهران. لم يكن شكرى سرحان قرأ الرواية من قبل.. ذهب إلى المكتبة واشترى الرواية، وأثناء عودته إلى البيت، طالع صفحاتها الأولى.. اتصل بكمال الشيخ ليخطره، بحماس، بشغفه للقيام بالدور. وعندما استفسر المخرج عن سر موافقته السريعة، قبل أن يكمل الرواية، أجابه شكرى سرحان أن جملة «آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق» جعلت الشخصية، بأغوارها، تترآى أمامه، وأنه أدرك أن بطل الفيلم الذى غادر السجن توا «خرج وفى جوفه نار».. وأردف «إنى ممتلئ بهذا الشعور».

 

طوال الفيلـم، حافظ شكرى سرحان على جذوة النار التى تعتمل بداخله، سواء فى صمته حيث يبدو وجهه مفعما برغبة حارقة فى الثأر، أو فى أحاديثه، حين تخرج الكلمات من فمه، حتى بصوت منخفض، وكأنها طلقات مسدس مكتوم الصوت.. كذلك الحال فى مواقفه المختلفة، بما فى ذلك المواقف الرومانسية. إنه يحب نور ــ شادية ــ ويتواصل معها، لكن ذلك التواصل المتقطع بفعل الألم الذى يحسه، والذى يزداد كلما تكالبت الظروف عليه، وكلما ازداد إدراكه لعجزه، فعندما تعود «نور» ليلا، ممزقة الملابس، آثار الكدمات على وجهها، عقب تعرضها لاعتداء شباب أقرب للكلاب، يشعرنا شكرى سرحان أن ألسنة اللهب تتصاعد بداخله.

 

أما نور، فإنها اسم على مسمى، فتاة ليل نعم، ولكن تضىء شيئا من عتمة أيام سعيد مهران، وبهذا الفهم، أدت شادية دورها، بالصرامة التى يتسم بها أسلوب كمال الشيخ، ذلك أنه تحاشى تماما أن يستدرج إلى إغراء تتبع مهنتها أو تجسيد جانب منها، ولكنه حدد بدقة، مستواها، بالملابس البسيطة التى ترتديها، والمكياج الفج الذى وضعه بمهارة، الماكيير رمضان إمام، حيث أبرزها كامرأة فقيرة، من الناحية المالية والمادية، ولكن بأداء شادية، بدت على قدر كبير من الثراء الروحى، تمنح سعيد مهران، بسخاء، فيضانا من الرحمة. علاقتها به ليست حسية، فهى، بالنسبة له، أقرب إلى الأم، تحنو عليه، تترقرق فى عينيها محبة خالصة، تأويه فى شقتها المتواضعة بالقرب من منطقة المقابر.. تخرج، لعملها، وتعود، متعجلة، كى تطمئن عليه، ويتعمد كمال الشيخ أن يبقى بطله فى العتمة، وحين تدخل بطلته الحجرة المظلمة، تضىء النور.. إنه «نور» فعلا. وبينما تنطلق طلقات رصاصات الشرطة لتردى سعيد مهران قتيلا، فى النهاية، تعبر شادية، بتقلص وجهها ألما، عن الإحساس أن هذه الطلقات، إنما تصيبها هى.

 

إلى جانب نور، جسدت شادية ثلاث من بطلات نجيب محفوظ: حميدة فى «زقاق المدق» لحسن الإمام 1963. كريمة فى «الطريق» لحسام الدين مصطفى 1964. زهرة فى «ميرامار» لكمال الشيخ 1969.. نجحت فى بعضها، عندما التزمت، مع صناع الأفلام، برؤية نجيب محفوظ الجوهرية، لنماذجه وواقعه.. ولم توفق فى بعضها، بسبب عدم الالتفات، بما فيه الكفاية، لما جاء فى أعمال نجيب محفوظ.

 

ظهرت «حميدة» مرتين على شاشة السينما، مرة فى الفيلم المصرى، وبعد ثلاثة عقود تسطع فى فيلم مكسيكى بعنوان «حارة المعجزات»، من إخراج جورج فونس، حيث أصبح اسمها «الميتا»، بأداء الممثلة التى أصبحت عالمية، اللبنانية الأصل سلمى حايك.. وثمة مفارقة تستحق الانتباه: الفيلم المكسيكى، أقرب لعالم نجيب محفوظ وروايته من الفيلم المصرى، وسلمى حايك تعبر عن «حميدة» على نحو أعمق وأصدق من تجسيد شادية لها. جورج فونس، وكاتب السيناريو بيثينتى لينيرو، وسلمى حايك، كل على حدة، أشاد أكثر من مرة، إلى نفاذ بصيرة الروائى، وإدراكه للقوانين التى تؤدى للظواهر، وتماثلها، برغم اختلاف المكان والزمان.. والواضح أن سلمى حايك تفهمت واستوعبت شخصية حميدة، بتكوينها الداخلى، الذى يرصده نجيب محفوظ بقوله «فتاة مقطوعة النسب معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والأمان والإطمئنان، ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل فى بث هذه الروح القوية فى طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت طبيعتها قوية لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة فى حياتها».. وفى موضع آخر، يصف، بجرأة وحسم، فى ثلاث كلمات قاطعة، أحد أهم سمائها «كانت عاهرة بالسليقة».

 

تحركت سلمى حايك، طوال «حارة المعجزات»، على هدى ملاحظات نجيب محفوظ، فبنظراتها، تلتهم ما تطمح له أو تطمع فيه، فإذا أطلت من نافذتها ورأت حبيبها، فإنها ترسل له، بعيونها، رسائل مفعمة بالرغبة، وإذا وقفت أمام «فاترينة» تعرض الملابس الداخلية، فإنها تعطى إحساسا باستعدادها على مد يدها لتكسر الزجاج كى تأخذ ما تريد. تتحرك وتتلفت وتتكلم وتتشاجر وكأنها تقف على أرض نفسية صلبة.. وبإرداتها، تذهب مع القواد إلى وكره، وتستجيب بلا مقاومة لطلباته، وتندمج فى حياة الليل، وتنتقل سريعا من فراش لفراش، وتغدو مدمنة للمخدرات، وهى فى هذا السقوط السريع، تعبر عما جاء فى الرواية التى تقول «إنها تنحدر إلى مصيرها المحتوم لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر إلى الهاوية من دقائق الحصى».. رواية «زقاق المدق» منحت سلمى حايك دورا فريدا، وبدورها منحت شخصية «حميدة» حضورا عالميا.

 

اختلف الأمر، بالنسبة لشادية، ذلك أنها، فى «زقاق المدق»، انتمت لحسن الإمام أكثر من ارتباطها بالرواية، فهى هنا مجرد «دلوعة»، تمضغ اللادن وتتمايل فى مشيتها، تخرج الكلمات من فمها بميوعة مصطنعة، وتغنى فى الكباريه، أيام الاحتلال، أغنيات تسخر من الإنجليز.. إنها مع كاتب السيناريو المبتدئ، حينذاك، سعد الدين وهبة، والمخرج، ولم يستفيدوا من إضاءات نجيب محفوظ.

 

حققت شادية نجاحها حين قدمت «كريمة» فى «الطريق». الشخصية أصلا، فى الرواية، من النوع الذى يمنح الممثل طاقة لا يستهان بها. إنها جامحة، مثيرة للغرائز، ظروفها تبدو فى عينى الذئب أقرب للفريسة، فهى امرأة ناضجة، جميلة، متزوجة من صاحب فندق عجوز، لا تخلو من غموض، يرمقها نزيل الفندق، صابر الرحيمى، بأداء رشدى أباظة، وبدورها ترسل له، بعيونها، رسائل مبهمة، وفى العديد من المشاهد تحافظ شادية، بمهارة، على ذلك الغموض الأخلاقى، ما بين رفضها الحاسم لإقامة علاقة مع النزيل، أو الاستجابة لما يرغبه، وبذكاء أقرب للخبث، تذيقه طرفا من حلاوتها، ثم تمتنع عنه، ثم تدفعه، بالإيحاء تارة والتصريح تارة، إلى قتل زوجها العجوز.. شادية هنا، لا تلجأ لكليشيهات الإغراء المألوفة، المكررة، فى السينما المصرية، لكن شباك الغواية عندها، تنطلق من عيون مليئة بالوعود المترعة بالشهد.

 

تنوعت، بل تضاربت، نماذج النساء، التى جسدتها شادية، اعتمادا على روايات نجيب محفوظ» من «نور» «اللص والكلاب»، حيث تبدو وكأنها الرحمة تسير على قدمين. و«حميدة» «زقاق المدق»، المتمردة على «زقاق المدق» حسب تعبيرها، ثم الفتنة المدمرة فى «الطريق». وأخيرا «زهرة» «ميرامار»، وهى شخصية ثرية بالمعانى والدلالات، حللها الكثير من نقاد الأدب، فهى عند فاطمة موسى «الشخصية الوحيدة التى تمثل المستقبل.. وهى مصر التى صورها الفنانون فى شكل فلاحة منذ أيام مختار وتمثال نهضة مصر».. وعلى نحو متقارب، يراها محمود أمين العالم «رمز مصر الباحثة عن سند، عن حب، عن استقرار، عن سعادة»(3).. زهرة، يتصارع عليها نزلاء «البنسيون» الخمسة، كل منهم يريدها لنفسه، على طريقته، ولكنها قوية، صعبة المنال، أذكى من أن تحوِل نفسها إلى مطفئة شهوات، أو ألعوبة فى يد الآخرين. حاولت شادية، بكل طاقتها، أن تحافظ على التوازن بين وضعها المتواضع كعاملة فى البنسيون من ناحية، وفى ذات الوقت، شادية ذات كرامة من ناحية ثانية. وعلى الرغم من نجاح مسعاها فى أن تبدو، فى أدائها، إنسانة جادة، قبل أن تكون مجرد أنثى، فإن الفيلم لم يسعفها فى إبراز إصرارها على استقلالها وحريتها، وجعلها تقترن ببائع الجرائد، كى تكون النهاية سعيدة.. لذا فإن الناقد هاشم النحـَاس يصل لنتيجة مؤداها «..وبفقدان زهرة فى الفيلم لسماتها الأساسية الموجودة فى الرواية، إلى جانب تحويل اتجاهاتها وتبديل أهدافها فقدت أيضا أبعادها الرمزية وأصحبت زهرة فى الفيلم شيئا آخر تماما لا يشترك مع زهرة الرواية إلا فى الإسم فقط»(4).

 

أيا كان الأمر، فإن شادية، بفضل نجيب محفوظ، تألقت فنيا، فى أدائها ــ على الأقل ــ لشخصيتين من بطلاته: «نور» فى «اللص والكلاب» و«كريمة» فى «الطريق».. وامتدت عطايا نجيب محفوظ، لأخريات من الفنانات، جسدن شخصياته، على نحو يستحق التحليل والتأمل.

 

 

المراجع

 

«1» حسن عطية، كتاب «زهرة صبار.. قمرية»، ص 27.

 

«2» د.فاطمة موسى، كتاب «نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية»، ص146.

 

«3» محمود أمين العالم، كتاب «تأملات فى عالم نجيب محفوظ»، ص138.

 

«4» هاشم النحاس، كتاب» نجيب محفوظ على الشاشة»، ص233.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات