أنا زعلان يا نيل منك - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 2:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أنا زعلان يا نيل منك

نشر فى : الإثنين 8 مارس 2010 - 9:59 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 مارس 2010 - 9:59 ص

 يرتبط النوبى الجنوبى بنهر النيل ارتباطا عضويا، نلاحظه فى الديوان الوحيد للشاعر محمد حمام المولود فى 3/11/1935، والمكتوب بالعامية المصرية، والذى يمثل نموذجا متميزا يفيض بالمحبة للنهر، ويوضح مدى ارتباط النيل لدى المواطن النوبى بالعادات والتقاليد وتفاصيل الحياة اليومية التى تشكل وعيه منذ الطفولة، حيث يقول حمام فى مطلع قصيدة «أنا زعلان يا نيل منك»:

ف ليلة العيد
كَتْ أمى زمان تحمينى فى بحر النيل
ولما الميه تلسعنى
تقول يا عينى يا ولدى
تدفينى بشال أخضر قطيفة بالخرز مشغول
تغنى لى بصوت متحنى حنية
يا ريت تكبر وتبقى زى النيل
تفيض بالخير
ومن يومها وأنا عاشق لبحر النيل
بعوده الفارع الأسمر
ف لون جدى وأبويا وأمى ويمامتى
وصار حبه بيجرى ف قلبى زى الدم

إن طفولة الشاعر التى رضع فيها ماء النيل أورثته عن أبيه وجده عشق هذا النهر الذى يماثله فى سمرته ويسرى دما فى عروقه، ويشكل ماضيه وحاضره ومستقبله، فكيف يمكن له أن يتخيل حياته بعيدا عنه؟

ولما كبرت..
قالولى النيل حياخد منّكو بلدكم
ما صدقتش..
عينيه دمعت م الحزن
وغنّى الناى وقال يا عينى يا بلدى
يا نيل سبنى أحوش حِتّه عشان ولدى
يا نيل يا أبونا يا أبو الكل
سبت القبلى والبحرى..
وبس احنا اللى هُونّا عليك؟!
أنا زعلان يا نيل منك

وعندما تحولت الأقاويل إلى حقائق، صارت لحظة مفارقة النوبيين للنيل لحظة مفجعة، تشبه لحظة مفارقة الروح للجسد، لهذا لم يكن أمامهم سوى محاولة التماس الحكمة من الشيوخ، والدعاء لله أملاً فى الخلاص من هذا البلاء، حيث يصور حمام هذه اللحظات فى قصيدة «يا عمنا» قائلا:

يا عمنا يا أبو توب مدندش قول لنا
أحسن وتربة سيرة غالية عندنا
إحنا حزانى كلنا
من أول الطفلة الرضيعة لحدنا
إحنا حزانى كلنا
يا ربنا..شيل عننا..حوش عننا
شىء جاى يجرى من بعيد بيخُضِّنا
تيجى المراكب ترمى خوفها عندنا
وتلمنا..

إن هذه اللحظات الحزينة لم تنته بانتهاء ترحيل النوبيين إلى الأرض الجديدة، لكنها ظلت تدمى قلوبهم، مما جعلهم لا يستطيعون مشاهدة إنجازات الثورة وسدها العالى بعيونهم الدامعة، حيث يقول حمام فى ختام قصيدة «سلام»:

يا ناس يا أحباب أنا قلبى سقط منى
ومش قادر يكمل لى
وعينى الدمع سيَّحها
وأنا شايف ومش شايف
صور بتزُق بعضيها
وتتكسم وتتجسم قصاد منى
وأنا برضه..كما قلبى
ما نيش قادر أغنيها
أنا بدى تقولوا لها
ف جيِّتكم على العالى
بدال السد لازم ينبنى سدين
عشان اللى انتوا راح تبنوه
يدوب يكفى لدمع العين

بقى أن تعرف أن محمد حمام صاحب هذا الديوان الذى يحمل عنوان «عشان الليل» ويضم 19 قصيدة تعبر عن الحزن النوبى النبيل، هو نفسه المطرب النوبى المتميز محمد حمام صاحب الأغنية الشهيرة:

يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى
أستشهد تحتك وتعيشى إنتى

وعلى الرغم من أن حمام له العديد من الأغنيات منها: راجع لحضنك يا مّه، والليلة يا سمرة، ويا عم يا جمَّال، وبابلو نيرودا، وغيرها من الأغانى العامية والنوبية، فإن أغنية «يا بيوت السويس» التى ألفها الشاعر عبدالرحمن الأبنودى تظل هى درة التاج، نظرا لارتباطها بلحظة مصيرية فارقة فى تاريخ مصر والأمة العربية.

وهذه المعلومة تقودنا إلى ملاحظة جوهرية تضرب مثلا نادرا فى الوطنية، فالحزن النوبى الدفين فى قلب حمام لم يمنعه من السفر إلى السويس والإقامة على الجبهة والغناء للجنود لرفع روحهم المعنوية فور هزيمة 1967، حيث لم يكن للحزن الشخصى الخاص لديه مكان أمام المصلحة الوطنية العامة.

وتجدر الإشارة فى هذا السياق أيضا إلى أن حمام النوبى صاحب المواقف الوطنية النبيلة لم يكن على وفاق مع السلطة مطلقا، فقد تم اعتقاله لمدة خمسة أشهر عام 1954، ثم تم اعتقاله مرة أخرى لمدة خمس سنوات من عام 1959 حتى عام 1964، بالإضافة إلى استمرار اضطهاده فنيا من المؤسسات الرسمية معظم سنوات حياته.

وعلى الرغم من أن هذا الاضطهاد السياسى والفنى قد دفع حمام إلى السفر للجزائر ثم إلى فرنسا التى أقام بها لأكثر من خمس سنوات فى السبعينيات، ذاع خلالها صيته الفنى وانتشر وأصبح فنانا معروفا فى الوسط الثقافى الفرنسى، فإنه لم يفكر مطلقا فى المزايدة على وطنه بأصوله النوبية، ولم يدر بخلده ولو للحظة واحدة فكرة الانفصال، وكيف هذا وهو الذى يقول فى ديوانه:

أنا أصلى نوبى سويسى
متربى ف حوارى بولاق

ولهذا عندما مات حمام فى 26 فبراير 2007 كانت جنازته جنازة عسكرية مهيبة، التف فيها نعشه بعلم مصر وانطلقت قذائف المدفعية تحية لفنان مصرى وطنى مخلص لم يعرف المتاجرة بالفن أو بالسياسة.

التعليقات