مشاهد من الحرم المكي - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مشاهد من الحرم المكي

نشر فى : الجمعة 8 مارس 2024 - 6:10 م | آخر تحديث : الجمعة 8 مارس 2024 - 6:10 م
مشهد (1)
ذهبت لمكة المكرمة مرتين إحداهما للحج وأخرى للعمرة وعشت فيهما أجمل أيام حياتى كلها، كلتاهما كان فى الشتاء، ورغم ذلك كان جو مكة حارا، قلت لنفسى: فما بالنا بحر مكة فى الصيف.
قلت لنفسى: لماذا لا تكون باردة نسبيا عن ذلك، ولكنى سرعان ما وجدت الإجابة حينما نزلنا بملابس الإحرام للشارع والمسجد الحرام، فلو كانت أجواء مكة مثل أجواء الإسكندرية أو فلسطين أو أوروبا لمات معظم الحجاج المحرمين والمعتمرين من شدة البرد أو على الأقل أصيبوا بأمراض صدرية وتنفسية كثيرة.
فقد علم الله فى الأزل حينما بنت الملائكة الكرام هذا البيت العتيق وأكمل بعد ذلك بناء قواعده الخليل العظيم إبراهيم مع ابنه العظيم إسماعيل عليهما السلام، أنه سيحرم الحجاج ويطوفون حول البيت طوال العام وفيهم الضعيف والمريض والطفل والشيخ الكبير، وكل هؤلاء سيتجردون من ملابسهم سوى ملابس الإحرام التى لا تحمى جسدا ولا تقى بردا، فجعلها كذلك ليستطيع الحجاج والمعتمرون الإحرام فى كل فصول العام.
الخلاصة أن الله ما قدر شيئا يخص عبادته إلا وجعله من تمام الحكمة وأجل التقدير وجعله ميسرا للناس، وما من عبادة لله إلا وفيها كل المصلحة للعبد وكل الخير والنفع والسؤدد والمجد له.
مشهد (2)
يمنع الرجال غير المحرمين من الطواف بالكعبة وحولها مباشرة ــ أى فى الدور الأرضى ــ وهو الأجمل والأروع والذى ترى فيه الكعبة مباشرة، ولذا يلجأون للطواف فى الدور العلوى وهو يتميز بالسعة وعدم الزحام ولكن شوطه ضعف الشوط حول الكعبة مباشرة.
ولكن كل ذوى الإعاقة وكبار السن ومن معهم أطفال أو يطوفون على عجل أو يحملون أطفال على عجل كلهم يطوف فى الدور العلوى حيث لا زحام ولا خوف على ذوى الإعاقة وكبار السن.
فوجئت وأنا أطوف حول الكعبة فى الدور العلوى بصوت يدق على الأرض بانتظام فتأملت الصوت فإذا شاب أسمر كفيف يحمل عصا تدله على الطريق وتمنعه من الاصطدام بغيره.
قلت لنفسى: أى عزيمة هذه التى يتمتع بها هذا الرجل فقد عذره الله، وأعطته الشريعة السمحة رخصة عدم فرضية الحج، ولم تلزمه بسنة العمرة فهى شاقة جدا على الصحيح والسليم فما بالنا بالكفيف، سفر، طائرات، تفتيش فى المطارات، سكن فى الغربة، ازدحام فى طرق الحرم، ازدحام فى الطواف والسعى، وبذل أموال وجهد، يسير وحده دون مساعدة سوى عصاه التى تهديه الطريق فى الزحام الشديد.
سألته: هل ترغب فى مساعدتك على الطواف قبل الفكرة واصطحبته معى، عرفت أنه من السودان وأنه يدرس القرآن والشريعة هناك، وأنه من الخرطوم، أدركت من ملابسه أنه فقير، تبادلنا الطعام والمشروبات.
اقتربت صلاة المغرب، قال: أريد الوضوء، قلت له: دورة المياه بعيدة جدا خارج الحرم والزحام شديد، سألته: هل أنت متوضئ الآن؟ أم نقض وضوءك؟ قال: أنا متوضئ، ولكنى أجدد وضوئى مع كل صلاة، قلت: إن الله لم يفرض عليك ذلك، هى نافلة للأصحاء والأقوياء ولمن يرغب منهم فحسب، والله رفع عنك ذلك، وخاصة فى زحام الحرم ويمكنك الصلاة بوضوئك. قال مصرا على عزماته الغريبة على أمثالنا: سأتوضأ هنا عند حوض زمزم فى سلة المهملات، اصطحبته إليها وأنا أصب عليه الماء، رأيته مصرا أن يغسل كل عضو ثلاث مرات قلت له: يجزئك ويكفيك مرة وخاصة فى مثل هذه الظروف، أصر على رأيه فنفذت رغبته.
قلت له: ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، ومثلك يجب عليه أن يختار الأيسر، لأنها الأنسب لظروفك، وإذا كان اختيار اليسر والأيسر لكل الناس ففى حق مثلك أولى.
أعرض عن كلماتى، عجبت لماذا يشق الناس على أنفسهم ما يسره الله عليهم، ويضيقون ما وسعه الله عليهم. جاء اليوم الثانى والثالث فقابلته فيهما أيضا، تأملت أهل الطواف وفى كل مرة أجد كفيفا يسير بعصاه وحده، ووجدت اثنين معا، كلاهما مكفوف البصر، والغريب أن بعض موظفى الحرم من الشباب يكونون جالسين على المقاعد، وأرى أن يخصص موظف لكل مكفوف لمساعدته على الطواف والسعى بدلا من جلوسهم الدائم هكذا.
لاحظت أن معظم المكفوفين من إفريقيا وذلك واضح من بشرتهم السمراء، ومعظمهم يبدو عليه الفقر ولكن عزيمتهم الإيمانية أقوى من الحديد، فالعمرة ليست سهلة أو بسيطة، جزاهم الله عن الإسلام والشريعة خير الجزاء.
التعليقات