الصحة والصلاحية جميعًا - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 4:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصحة والصلاحية جميعًا

نشر فى : الجمعة 9 نوفمبر 2012 - 8:25 ص | آخر تحديث : الجمعة 9 نوفمبر 2012 - 8:25 ص

تعجل القوى الإسلامية الصعود السياسى قبل إنضاج مشروعاتها الفكرية يوقعها فى تناقضات مع أصول المشروع الذى تنادى به، ويجردها من معيار الصحة والانضباط الشرعى الذى طالما نادت به، وبنت عليه شرعيتها، وانطلقت منه لنقد السلطة قبل وجودها فيها، ليبقى معيار الصلاحية متحكما وحده فى مواقفها وسياساتها.

 

 

المواقف التى اتخذتها الحركات الإسلامية قبل اقترابها من السلطة عبرت عما تراه «صحيحا» من الناحية الشرعية (وإن لم تكن هذه الحركات جهة علمية شرعية)، ومن ناحية اتساقها مع مشروعها السياسى والحضارى، فكانت جماعة الإخوان واضحة فى رفضها اتفاقية السلام مع إسرائيل، واعتبر برلمانيوها الكويز اتفاقية سياسية لا اقتصادية، تشكل خطرا على الأمن القومى المصرى، كما أدانوا - فى كل فرصة - فرض الحصار على قطاع غزة، ومحاولات النظام السابق هدم الأنفاق الواصلة بين مصر والقطاع، والتى استخدمت كبديل للمعابر المغلقة أو إقامة جدار فاصل، وبعد الثورة وقبل وصول الدكتور مرسى للرئاسة اعتبرت قيادات الجماعة اللجوء للقروض الأجنبية «عودة لخطايا مبارك»، وأما الدعوة السلفية بالإسكندرية فقد أكدت قياداتها ــ قبل الثورة وبعدها ــ رفضها النظام الديمقراطى (الذى اعتبرته كفرا)، والتعددية الحزبية، وترشح المرأة للمجالس النيابية، ومشاركتها فى الانتخابات، باعتبارها كلها من الأمور المخالفة للشرع.

 

وهذا الحرص على انضباط معيار «الصحة» ــ فى التصورات المختلفة عند الإسلاميين ــ لم يكن مقترنا بأى مسعى جاد لضبط معيار «الصلاحية»، فلم تسع هذه الحركات ــ بالتوازى مع بيان مواقفها من الأنظمة القائمة ــ لتقديم رؤى وسياسات بديلة لما ترفضه، تقوم على الأسس الشرعية التى تراها هى منضبطة؛ لم يقدم السلفيون تصورا لنظام سياسى مغاير، ولم يقدم الإخوان تصورات جادة تتعلق بالاقتصاد والسياسة الخارجية، ذلك بالرغم من أن الإسلاميين عرفوا أنفسهم كحركات (أى أصحاب مشروعات للتغيير) لا جهات علمية يسعها الاكتفاء ببيان أحكام الوقائع محل النظر، بقطع النظر عن مترتبات ذلك.

 

وبسبب إغفال تقديم البديل الصالح، الذى لا يناقض شروط الصحة، وجدت الحركات الإسلامية نفسها ــ مع تسارع دمجها السياسى ــ تتعامل مع واقع ترفض جل مفرداته (بحق أو باطل) بغير أن تملك لها بديلا، فما كان منها إلا أن قبلت هذا الواقع، فأكدت قيادات الإخوان ــ قبيل انتخابات الرئاسة ــ عدم وجود أى نية لمراجعة اتفاقية السلام، ومع وصول الدكتور مرسى للرئاسة اتسعت التطمينات لتشمل عدم وجود أى نية لمراجعة اتفاقية الكويز، كما دخلت القيادة السياسية فى مفاوضات مع صندوق النقد الدولى للحصول على قرض، وبعد الثورة بأسابيع قليلة أنشأت الدعوة السلفية حزب النور، الذى شارك فى العملية الديمقراطية، فقدم مرشحين للانتخابات البرلمانية بينهم نساء، ودعا أنصاره ــ رجالا ونساء ــ للمشاركة فى الانتخابات بالتصويت له.

 

 

لجأ الإسلاميون للقاعدة الشرعية القائلة بأن «الضرورات تبيح المحظورات» لتبرير هذا التغير فى مواقفهم، والضرورة ــ كما يعرفها السيوطى وغيره من أهل العلوم الشرعية ــ هى «بلوغ الأمر حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقى جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه عضو، وهو ما يباح به تناول المحرم»، وهو تعريف ضيق لا يصلح لتبرير مواقف الإسلاميين المخالفة لما ارتضوه هم من أصول؛ سواء القبول باتفاقية السلام، أو اتفاقية الكويز، أو القرض فى حالة الإخوان، أو المشاركة الحزبية وترشيح النساء ودعوتهن للتصويت فى حالة الدعوة السلفية، ولضيق التعريف فقد تجاوزه الإسلاميون، ولجأوا لتعريفات أخرى فضفاضة.

 

والتوسع فى مفهوم «الضرورة» وإعادة تعريفها على هذا النحو يحولها من معيار منضبط يمكن القياس عليه، لأداة تمتلكها قيادات الحركة الإسلامية لتبرير مواقفها، وتمكينها من تجاوز كل «الثوابت» ومخالفة ما تقول هذه الثوابت بكونه صحيحا، وهو ما يقلل من أهمية معيار الصحة، إذ يصير تجاوزها ممكنا بأدنى ذريعة طلبا لما هو صالح، الأمر الذى يعنى إسقاط «المرجعية المطلقة» التى تستند إليها هذه التنظيمات، واستبدالها بمرجعية التنظيم، الذى يكون وقتئذ مرجعية ذاته، فيتحول معيار الصلاحية للثابت الوحيد، وتتجرد التنظيمات - كما يقول هنتنجتون- من كل مقاصدها ومبادئها ليكون البقاء والاستمرار المعيار الوحيد الحاكم لقراراتها ومواقفها.

 

ومعنى هذا الأمر أن الحركات الإسلامية ــ مع اقترابها من السلطة فى ظل غياب المشروع الناضج الجامع بين الصحة والصلاحية ــ تصير أكثر قدرة من غيرها على تجاوز «الثوابت» التى أمضت عقودا تدافع عنها وتحفز المجتمع على ذلك، لامتلاكها شرعية تنظيمية أعلى ــ عند المنتسبين إليها- من شرعية «المطلق»، وأن وجودها فى الحكم مع استمرار هذا التوجه يعنى تخليها التدريجى عن ثوابتها، الأمر الذى يبدو جليا ــ على سبيل المثال ــ فى تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلى، التى قال فيها إن نسبة تدمير الأنفاق إلى غزة فى عهد الرئيس مرسى أعلى منها فى عهد النظام السابق.

 

 

أخطأت الحركة الإسلامية من قبل عندما قصرت اهتمامها على معيار «الصحة» ولم تبذل الجهد فى تقديم الصحيح الصالح، ثم هى تخطئ مرة ثانية بتجاهل معيار الصحة بالكلية، وقصر النظر على الصلاحية، على نحو يجردها من مشروعها الذى قامت لأجله، وعلاج الخطأ يستوجب انفصال الإسلاميين عن السلطة، ودفاعهم عن مشروعهم إزاءها، والعمل ــ بالتوازى مع ذلك ــ على استكمال إنضاج المشروع، عن طريق الاستعانة بأهل الاختصاص فى المجالات المختلفة، الذين يبنون على «الثوابت الشرعية» (والتى يحددها لا النشطاء ولا «الدعاة»، وإنما أهل العلم)، كل فى تخصصه، برامج تصلح للتنفيذ.

 

وقد علق بعض مشايخنا من قبل على شعار (الإسلام هو الحل) الذى رفعه الإسلاميون، قائلا: «إن الخلط بين الحل والمرجعية مشكلة، وأن الإسلام هو المرجعية، وأما الحل فالمتخصص المسلم» الذى يتبنى ويطور «حلولا» يتجنب المخالفات الشرعية، أى يراعى ــ مع سعيه إلى الصلاحية- الصحة والانضباط الشرعى للمشروع الذى يقدمه، وأما جعل الإسلام «حلا» فهو يعنى انصباب التركيز ــ وقت الجد ــ على معيار الصلاحية، مع تجاهل لمعيار الصحة يفقد المشروع جوهره.

 

 

التعليقات