سعاد حسنى.. الوحيدة التى تجاوزت بأدائها نصوص أديب نوبل - كمال رمزي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 9:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعاد حسنى.. الوحيدة التى تجاوزت بأدائها نصوص أديب نوبل

نشر فى : الجمعة 9 ديسمبر 2011 - 6:15 م | آخر تحديث : الجمعة 9 ديسمبر 2011 - 6:15 م

سعاد حسنى، الموهوبة، دخلت عالم نجيب محفوظ من ستة أبواب «الطريق» لحسام الدين مصطفى 1964، «القاهرة 30» لصلاح أبوسيف 1966، «أميرة حبى أنا» 1974، «الكرنك» لعلى بدرخان 1975، «أهل القمة» لعلى بدرخان 1981، «الجوع» لعلى بدرخان 1986.

 

لم تلتق سعاد حسنى مع شادية، فى «الطريق»، فعلاقة كل منهما مع «صابر الرحيمى»، وهما، فى طبيعتهما، على طرفى نقيض. شادية عاصفة، وسعاد نسيم. «كريمة» شظية من الجحيم، و«إلهام» عصفور من الجنة. شادية، ذات أغوار بعيدة، غامضة، متقلبة. سعاد بسيطة، واضحة، شفافة. هنا تتجلى قدرات الروائى الكبير على إبراز الفوارق الواسعة بين البشر.. ولأن الشخصيات الشريرة، فى الأدب والفن، غالبا، تحظى بقوة تأثير أشد من الشخصيات الطيبة، فإن شادية، فى «الطريق» بدت أعمق حضورا من سعاد حسنى، الباهتة نوعا، والتى وجدت ضالتها، وفرصتها الكبيرة، فى «القاهرة 30».

 

تجسد سعاد حسنى شخصية «إحسان شحاتة» ــ تأمل معنى الاسم ــ فتاة فقيرة وجميلة، يشفع لها جمالها فى الانتقال من حال لحال، ولكن بثمن باهظ، تدفعه بجسدها الذى يعشقه قاسم بك فهمى، بأداء أحمد مظهر. وتصبح إحسان خليلته، بعد زواجها من محجوب عبدالدايم، الذى مثله باقتدار، فى أول ظهور له، على شاشة السينما: حمدى أحمد.. وعلى طريقته، يلخص نجيب محفوظ معالم بطله بأربع كلمات «فتى فقير بلا خلق»، وهو فى هذا يختلف عن إحسان شحاتة، المُساقة إلى نمط مُنحط من الحياة، دون حماس. اللافت أن «القاهرة 30»، إلى جانب لمسات صلاح أبو سيف البديعة، ذلك التجاوب الخلاق، فى الأخذ والعطاء، بين سعاد حسنى وحمدى أحمد، فعلى سبيل المثال، حين يدخل الزوج حجرة النوم، بعد مغادرة قاسم بك الذى قضى وطره، يضىء النور. عندئذ تصرخ سعاد حسنى طالبة منه إطفاء النور، فالظلام عندها هو الستر.. وربما من الممكن القول إن بصمة سعاد حسنى الخاصة، العفوية على الأرجح، أضفت بعدا إنسانيا لا يتوافر بوضوح فى الرواية، فعقب زفافها السريع لزوج تعلم تماما أنه مجرد ستار لعلاقة البك بها، ترفع عينيها إلى وجه عريسها النذل، المتوتر. وقبل أن تنطق بكلمة تحس فى نظرتها المترعة بالشجن، شفقة غامرة تجاه الرجل الفاقد الكرامة، والذى عليه أن يقوم بدور الزوج والقواد فى آن.

 

رحبت الصحافة الفنية بالوجه الجديد، حمدى أحمد، وأشادت بأداء سعاد حسنى، فكتب مصطفى محمود «سعاد حسنى مثلت دورا صعبا، متلون المواقف والعواطف، مُعقد التركيب.. تناقضات فى التعبير لم تكن لتقدر عليها واحدة غير سعاد حسنى. عندها الموهبة على تلوين الصوت والصورة والوجه والتقاطيع فى كفاءة واقتناع وذوق مرهف» (1). وجاء فى مقالة لرجاء النقاش: «أما سعاد حسنى فقد كان دورها فى هذا الفيلم من أبدع أدوارها وأكثرها عمقا.. إن سعاد ممثلة موهوبة حقا.. وما أكثر ما تعطيه هذه الفنانة للسينما إذا وجدت إلى جانبها مخرجا له قيمة، وإذا وجدت لها دورا حقيقيا مثل هذا الدور».. (2).

 

سعاد حسنى، تكاد تكون الفنانة الوحيدة التى لم تجسد بطلات نجيب محفوظ بصدق ودقة فحسب، بل أضفت عليها رونقا يتجاوز ما هى عليه الأصول الأدبية. دليل على هذا دورها فى «الكرنك»، الفيلم الذى أثار ضجة كبيرة عند عرضه، وتحفظ الناقد سمير فريد على الكثير مما جاء به، ورفضه الناقد على أبوشادى رفضا مطلقا لأنه «فتح الباب لسيل من الأفلام الهزيلة التى راحت تتمسح فى السلطة وتتملق العهد الجديد» (3)..

 

 وبرغم هذه التحفظات وذاك الرفض، فإن تقييم سعاد حسنى حظى بتقدير رفيع. كتب سمير فريد: «.. ودور زينب بالنسبة لسعاد حسنى يضاف إلى رصيدها الكبير فى السينما المصرية.

 

 فهى تتلون فى الفيلم بين عدة أحوال متباينة تماما، من البراءة إلى السقوط مرارا بالمعاناة الهائلة بعد الاغتصاب، وفى مشهد محاولة الانتحار، ثم ذهابها مع زين العابدين فى سيارته تحت سفح الأهرامات»(4).

 

 

أما عن البصمة الخاصة والإضافة الخلاقة لسعاد حسنى، فإنها تتجلى فى أمرين، أولهما الروح الرقيقة، الطيبة، التى لا تخلو من صلابة داخلية، والتى جعلتها قادرة على تحمل المحن والخطوب من ناحية، والحنو على جميع من حولها، فى الأسرة والأصدقاء، وتفهم ضعفهم وانكساراتهم من ناحية أخرى. لكن الأهم ذلك الإبداع الشخصى، العفوى فى تقديرى، الذى يمكنك أن تلمسه فى لحظات خاطفة، فعندما تختلى، لأول مرة، مع حبيبها المدمر «إسماعيل الشيخ» ــ بأداء نور الشريف ــ يكتشف أنها ليست عذراء. فيعتمل فى عينيها عدة انفعالات: ألم معنوى، اعتذار، شفقة من أجله، على أنها اغتصبت فى أحد أجهزة الدولة بسبب علاقتها به.. سعاد حسنى هنا تقدم ما ليس موجودا فى الرواية. وهو الإنجاز الذى تحققه فى العديد من المواقف، فيصبح من أسباب ارتقاء الفيلم جملة وتفصيلا، فمثلا فى «الجوع»، المأخوذ عن قصة «سارق النعمة» من ملحمة «الحرافيش».

 

هنا، تطالعنا سعاد حسنى فى دور «زبيدة»، بائعة البطاطا، الفقيرة مثل بقية سكان الحارة، الخاضعين لفتوات طغاة، وبرغم قوتها وكرامتها، تتعرض للاغتصاب من أحد الفتوات، ويتكور بطنها بجنين، وبلا تردد، يقبل «جابر الجبالى» ــ بأداء متميز من عبدالعزيز مخيون ــ الزواج بها، سترا لها ومنعا للفضيحة. فى ليلة الزواج، داخل حجرة رطبة مظلمة، فى بدروم، يبدو «جابر»، القريب منها، منصرفا عنها. حينئذ، تتابعه بنظرات تفيض بالمعانى: الخجل، الامتنان العميق والتقدير الرفيع، المحبة الصافية، والأهم أنها تتمنى أن يُقدم عليها، ليس بدافع من رغبتها، ولكن كنوع من رد الجميل. فى وقفتها أمام الحائط الكالح، بالانحناءة الخفيفة لرأسها، وتركيز بصرها عليه، وبانكسار، توحى أنها على استعداد للركوع عند ركبتيه وتقبيل كفيّه، وطبعا لا تفعل، وإن كانت تعبر عن كل هذا بسلاسة ونعومة وبساطة.. سعاد حسنى، تجعلنا نكتشف مناطق ثرية فى النفس الإنسانية.

 

مشهد النهاية، فى «خان الخليلى» الذى حققه أحد أساتذة المدرسة المصرية فى السينما، عاطف سالم 1966، من المشاهد القوية، التى لا تنسى على مرّ السنوات: عربة كارو تحمل عزال أحمد عاكف ــ عماد حمدى ــ الذى يسير بجانب والديه، عبدالوارث عسر وآمال زايد. الكاميرا ترصدهم من مكان مرتفع، وبالتالى يبدو انسحاقهم واضحا. إنهم يغادرون المكان عقب وفاة الابن الشاب، أمل الأسرة فى الانتقال من حال لحال. على الجانبين، يقف بعض سكان «خان الخليلى»، فى صمت ووجوم، كأنهم يشيعون جنازة.

 

عماد حمدى، من أكثر نجومنا توافقا، مع قطاع من أعمال نجيب محفوظ، فمنذ ظهوره لأول مرة، فى «السوق السوداء» لكامل التلمسانى 1945، قام بدور الموظف المصرى، ابن الطبقة الوسطى، عدة مرات، وعلى نحو ناجح ومقنع، فالواضح أن قسمات العناء المرتسمة على وجهه، وطريقة حديثه المتمهلة، وصوته المنخفض، ووقاره العفوى، كلها معالم هيأته لأداء هذه الشخصية التى صاغها نجيب محفوظ فى الكثير من رواياته، بخبرة ودراية، عن معرفة ومعايشة، وجسدها عماد حمدى، بدقة وصدق وإبداع، من الصعب تخيل ممثل آخر يحل مكانه.

 

«أحمد عاكف»، موظف منسى، قضى سنوات طويلة على الدرجة الثامنة، لم يستكمل تعليمه العالى لسببين، أولهما رعاية أسرته حيث فصل والده من خدمة الحكومة، وكى يتيح لشقيقه رشدى، حسن يوسف، مواصلة دراسته، وهو فى هذا يعكس إحدى قيم الفداء والتضحية التى تتسم بها الطبقة الوسطى.. فى زاوية من قلب أحمد عاكف، نوع من الإحساس بالمرارة. يحس أن قطار الزمن مرق سريعا، لذا فإن فى عينى عماد حمدى، منذ المشهد الأول، سحابة أسى، يعوضها إيمانه بأنه «عبقرية مضطهدة» حسب تعبير نجيب محفوظ، يعبر عنها عماد حمدى بنظرة استعلاء خجولة، ودرجة ما من الانفصال بينه وبين الآخرين، حتى حين يقضى سهرات، ذات طابع ماجن، فى بيت الراقصة المعتزلة، وتمنعه كرامته أن يحكى لها عن مشاكله، وينسبها لصديق له.. وباقتصاد فى إظهار الفرح، وبشبح ابتسامة، مع وقفة أطول أمام المرآة، يجسد عماد حمدى ضياء الأمل الذى يتفتح فى قلبه حين ينبض بالحب تجاه ابنة جيرانه «نوال» ــ سميرة أحمد ــ ولكن شقيقه، العائد من أسيوط ، يرتبط بابنة الجيران، ويخطبها، وبرغم عدم اعتراف أحمد عاكف بالألم، فإن عماد حمدى، بلفتاته الوئيدة، وفتور حماسه، وصمته، وانسحابه داخل ذاته، يوحى بمدى الأسى المعتمل فى وجدانه.. لكن الضربة القاصمة، تأتيه بموت شقيقه، أمل الأسرة، عقب فترة قصيرة من مرض السل.

 

يصف نجيب محفوظ، حياة أحمد عاكف، على لسان إحدى الشخصيات، وصفا فاجعا حين تقول له «حياتك ليست بذى بال»... ويترجم الفيلم هذه الجملة التى استوعبها، فى تقديرى، عماد حمدى تماما، عندما يدخل حجرة شقيقه الراحل، يتأملها للحظة. ينكفئ على وجهه فوق السرير ويجهش ببكاء مر، كما لو أنه لا يبكى على وفاة أمل الأسرة وحسب، بل على حياته كلها.

 

ماذا كان سيحدث لو أن أحمد عاكف استفاد من ثقافته وعمل بالصحافة؟..أغلب الظن أنه سيصبح «عامر وجدى» فى «ميرامار» لكمال الشيخ 1969.. هنا، عماد حمدى، الأقدر على أداء هذا الدور، يطالعنا فى البنسيون. جاء من القاهرة ليستقر فى الإسكندرية، مرفأ الأمان وملجأ المهزومين. انخرط فى الأيام الخوالى فى حزب الوفد، حزب الأفندية، وتم الاستغناء عنه فى مجال الصحافة لأنه من أصحاب الأساليب العتيقة، وشأنه شأن «أحمد عاكف»، لم يتزوج ولم يخلف ذرية، وأمسى وحيدا، منسيا، يكتفى بدور المشاهد. يعلق على الأحداث ولا يشارك فيها. وإذا كان بعض النقاد، أيامها، أخذوا على عماد حمدى، والمخرج، أن صاحب ومؤدى هذه الشخصية «لم يكن له وجود يذكر فى الفيلم»(5). و«دور عامر وجدى فى الفيلم يتقلص حتى يكاد يتلاشى تماما»(6). فإن الأمر، بعد أربعة عقود، يبدو مختلفا، ذلك أن عامر وجدى، أصلا، من نماذج نجيب محفوظ التى تعيش على الهامش، ضربها الوهن حتى النخاع، انسحبت من الحياة بصراعاتها، بحلوها ومرها، وهذا ما جسده عماد حمدى الذى يبدو شبحا من الماضى.

 

أما «أنيس زكى»، أو عماد حمدى، فى «ثرثرة فوق النيل» لحسين كمال 1971، فإنه ينتمى، أو زميل، لكل من «أحمد عاكف» و«عامر وجدى».. إنه موظف منسى، مثل «أحمد عاكف»، وإذا كان بطل «خان الخليلى» يرى نفسه «عبقرية مضطهدة»، فإن بطل «ثرثرة فوق النيل» «نصف مجنون نصف ميت»، حسب رؤية الصحفية سمارة بهجت، التى تواصل: «يمكن أن تصفه بأى شىء أو لا تجد صفة على الإطلاق».. وبينما يعزل عامر وجدى نفسه داخل البنسيون، ينعزل «أنيس زكى» داخل العوامة، وإذا خرج، نستمع إلى مونولوج داخلى، بصوت عماد حمدى، يعلق على ما يراه فى الشوارع، وما يخطر على باله. المنولوج، فى حد ذاته، يعنى أن مردده يعيش فى وحدة، لا يجد من يحدثه أو يستمع له.

 

 إنه لم يتزوج، كما الحال بالنسبة لبطلى «خان الخليلى» و«ميرامار»، والفارق بينهما وبينه، أنه، على العكس منهما، وجد سلواه فى المخدرات. وها هو، عماد حمدى، يخرج من صفحات نجيب محفوظ، ليسير فى الشوارع، فى حالة هذيان.. إنه يوفق تماما، فى تجسيد إحدى الشخصيات المتكررة، المتباينة الأبعاد، فى كتابات الروائى الكبير.

 

تجربة السينما المصرية مع الثلاثية مهمة وفريدة. مهمة لأنها تقدم واحدة من أهم أعمال نجيب محفوظ، ومن القطع الأدبية الثمينة فى الثقافة المصرية، فضلا عن كونها تغطى مساحة زمنية واسعة، تمتد من منتصف الحرب العالمية الأولى، إلى أعقاب دوامة الحرب العالمية الثانية.. وفريدة لأنها تعتمد، فى شخصياتها الأساسية، على ذات الممثلين: يحيى شاهين أو أحمد عبدالجواد، فى الأجزاء الثلاثة، كذلك الحال بالنسبة لعبدالمنعم إبراهيم الذى حظى بدور الابن الكبير ياسين.. أما نور الشريف، فكان من نصيبه كمال عبدالجواد فى الجزءين الثانى والثالث، وآمال زايد، أمينة، الأم، فظهرت فى الفيلمين الأولين.. الثلاثية، من إخراج حسن الإمام، وهى، على التوالى: «بين القصرين» 1964، «قصر الشوق» 1967، «السكرية» 1973.

 

بعيدا عن التقييمات النقدية للثلاثية، ما بين الترحيب والرفض، يمكن القول، بعد مراجعة كتابات المعلقين، أن ثمة إشادة بأداء يحيى شاهين، واقتناعا عاما بقوة وعمق معايشته لشخصية أحمد عبدالجواد، فى المراحل الثلاث..

 

 مع عرض «بين القصرين» نقرأ: «.. يستهويك يحيى شاهين بصدقه غير المفتعل فى لحظات صرامته وفى لحظات لهوه»(7). «.. يحيى شاهين أنقذ نفسه بعد عشر سنوات من أفلام كان يؤدى فيها شخصيات لا تتفق معه، واسترد فى هذا الدور التجاذب الواجب توافره مع الجمهور»(8)..  وعلى هذا النحو، استمرت تقييمات النقاد ليحيى شاهين فى «قصر الشوق» و«السكرية».

 

فى أكثر من مناسبة، قال يحيى شاهين إنه تعلم الكثير من فن التمثيل، خلال اطلاعه على كتب الأدب، وروايات دستويفسكى على نحو خاص، ولأنه أعاد قراءة الثلاثية عدة مرات، فإنه تشبع تماما بشخصية السيد أحمد عبدالجواد، وأشار إلى أن نجيب محفوظ، رسم ذلك الأب الصارم، اللاهى، من الخارج رسما دقيقا.. وفى ذات الوقت، توغل إلى أعماقه، وحلل عواطفه، وتابع برهافة، أثر الخطوب والمحن فى نفسه، وبيّن بجلاء أثر الزمن عليه، فالرواية تبدأ وأحمد عبدالجواد فى قمة شبابه، العنفوان والحيوية والثقة، وتنتهى به عجوز، طريح الفراش، يحتاج لمن يؤنسه ومن يساعده.

 

بنيان يحيى شاهين الضخم، وصوته الجهير، المتعدد الألوان والطبقات، وشاربه الأنيق، والملابس البلدية الأنيقة، الفاخرة، التى صممها صلاح مرعى، كلها عناصر ساعدت الممثل على معايشة الشخصية. لكن الأهم، فهمه لنوازعها الداخلية، وقدرته على تبين الجوانب الثابتة والمتغيرة فى شخصيته.. فى «بين القصرين» يهتز جميع أفراد أسرته لمقدمه أو مغادرته أو لمجرد سماع صوته. الوحيد الذى يحظى بنظرات تفيض بالمحبة منه هو «كمال»، الطفل، آخر العنقود.. وإذا ذهب السيد أحمد عبدالجواد إلى عوامة المجون، مع أصدقائه، فإنه، بأداء يحيى شاهين، أحد ملوك الملذات، عيونه تنطلق بالفرح والمرح والشقاوة، يمسك بالرق ويوغل فى البهجة.. إنه الإرداة والقوة تمشى على قدمين، يمسك بيديه على زمام الأمور، أو هكذا يخيل له، فالواقع والأقدار، عند نجيب محفوظ إجمالا، لا تعطى لأحد، أيا كان، سلطة مطلقة، فها هو يحيى شاهين، بأوامر من جنود الاحتلال، يحمل عبوات التراب، لردم حفرة حفرها الثوار، ثم تأتى الفجيعة حين يعلم باستشهاد ابنه فهمى ــ صلاح قابيل ــ فتميد الأرض تحت قدميه. يحيى شاهين، بصدق الأداء الداخلى، يشعرنا بأنه يتداعى ويكاد، ببنائه القوى، أن ينهار تماما.

 

برغم استرداد أحمد عبدالجواد قدرا كبيرا من عنفوانه، فإن شيئا ما قد تغيّر. ربما سطوته على النساء الماجنات قد تضعضعت، خصوصا مع أجيال جديدة منهن، لا يكتفين بدورهن كمطفئات للشهوة. إن رغبته اتجهت نحو زنوبة، صبية إحدى خليعاته، ويجزل لها العطاء، لكنها ترفض الإذعان له إلا بشروط، منها الزواج.. يحيى شاهين، فى «قصر الشوق»، تنتابه موجة عاتية من الغضب، يقمعه بصعوبة، وإن بدا واضحا، فى عينيه، وحمولة الكدر فى صوته. إنه يحس بالهزيمة، ومن بقايا أحمد عبدالجواد «بين القصرين» يستجمع شيئا من قوته وإرادته وكرامته، ويغادر العوامة بلا عودة.. هكذا، يدرك يحيى شاهين الثابت والمتغير عند أحمد عبدالجواد.

 

فى «السكرية» يجسد يحيى شاهين، المحطات الأخيرة لرحيل أحمد عبدالجواد. وإذا تذكرنا نظرات الحنو التى كان ينظر بها لآخر أبنائه، فى «بين القصرين»، ندرك ما حل به وهو ينظر، كطفل، يطمئن لوجود والده، كمال، الذى أصبح رجلا.. يحيى شاهين، كما فى الرواية، لا ينادى اسم ابنه مجردا، ولكن يضع أمامه كلمة «أستاذ»، الأمر الذى يزعج الابن المستسلم لتبادل الأدوار.

 

الآن، أيا كانت الآراء متباينة فى الثلاثية على الشاشة، فإن الاتفاق على اعتبار أداء يحيى شاهين لأحمد عبدالجواد إحدى قمم الأداء التمثيلى فى السينما المصرية لا يختلف عليه أحد، حتى إن فناننا الكبير محمود مرسى، الذى مثل هذه الشخصية، فى مسلسل «بين القصرين» تليفزيونيا، قال، بنزاهته المعهودة «بدون تواضع أو غرور، أقول إنى خسرت هذه الجولة أمام يحيى شاهين الذى يبدو كما لو أن نجيب محفوظ رسم هذه الشخصية خصيصا ليتواءم معها يحيى شاهين. لقد كنت أبحث عن أحمد عبدالجواد، بينما أحمد عبدالجواد يبحث عن يحيى شاهين.. لا أظن أن أحدا يمكنه أن يغدو أحمد عبدالجواد على نحو يفوق يحيى شاهين لعدة أجيال قادمة»(9).

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات