فى نقد العقل العربى - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 9:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى نقد العقل العربى

نشر فى : الإثنين 10 مايو 2010 - 10:13 ص | آخر تحديث : الإثنين 17 مايو 2010 - 7:45 م

 لم ينشغل مفكر عربى معاصر بسؤال النهضة كما انشغل به المفكر المغربى الكبير محمد عابد الجابرى الذى رحل عن عالمنا هذا الشهر. فقد وضع الجابرى الحرية عنوانا لبناء عروبة جديدة، وبحث عن إجابة سؤال النهضة فى آلة إنتاجها أولا وهى بنية العقل، حيث يقول: «لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها، أى العقل الناهض، ولا يمكن تحصيل الفكر القادر على صناعة النهضة، دون نقد للعقل العربى، وبحث صيرورته التاريخية، وتحديد المفاهيم المتحكمة فى بنيته».

ولكى نكون مخلصين لفكر الجابرى، علينا قبل عرض نموذج من نقده للعقل العربى أن نوضح أبرز الروافد المعرفية والأيديولوجية التى أسهمت فى تكوينه العقلى، حتى نفهم نظريته فى ضوء السياق الذى أبدعها. وأود هنا الإشارة إلى ملاحظتين فقط: الأولى، تتعلق بأن الجابرى الذى ولد عام 1936 بمدينة فكيك المغربية، قد تلقى دبلوم الدراسات العليا فى الفلسفة عام 1967 بالدار البيضاء، وحصل على دكتوراه الدولة من جامعة الملك محمد الخامس بالرباط عام 1970 عن رسالة عنوانها «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية فى التاريخ العربى الإسلامى»، ولم يذهب للدراسة خارج المغرب سوى عام 1958، وكانت سفرته إلى دمشق فى محاولة للحصول على الإجازة فى الفلسفة لكنه سرعان ما عاد ليكمل دراسته فى الجامعة المغربية الفتية، أى أن رحلته الأكاديمية كلها كانت وطنية قومية خالصة، ولم تمتد إلى أوروبا أو غيرها.

أما الملاحظة الثانية، فتتمثل فى أن الجابرى كان ناشطا فى خلايا العمل الوطنى ضد الاستعمار الفرنسى للمغرب فى بداية الخمسينيات، كما كان قياديا بارزا فى حزب الاتحاد الاشتراكى للقوات الشعبية الذى شغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسى قبل اعتزاله العمل السياسى وتفرغه للشئون الأكاديمية والفكرية.

والنموذج الذى اخترت أن أعرضه هنا هو نقد الجابرى لرؤية العقل العربى المعاصر للتراث، وذلك من خلال ثلاث تيارات يرى الجابرى أنها تمثل التيارات السائدة، وهى: التيار الدينى والتيار الليبرالى والتيار اليسارى، حيث يرى أنه على الرغم من أن هذه التيارات الثلاث تبدو ظاهريا شديدة التباين، فإنها جميعا مؤسسة على طريقة واحدة فى التفكير تصب فى نهر وحيد، هو نهر «السلفية».

وأول هذه التيارات هو التيار الدينى، الذى يرى أن التساؤل الذى يطرحه بصدد هذه القضية هو» كيف نستعيد مجد حضارتنا؟ كيف نحيى تراثنا؟» والحوار فى هذا السياق حوار بين الماضى والمستقبل لا وجود فيه للحاضر لأنه مرفوض من زاوية، ولأن حضور الماضى القوى فى هذا المحور جعله يلتهم الحاضر فى إطار الدعوة لسيطرته على المستقبل.ويرجع السر فى ظهور هذا التيار إلى نزوع الذات العربية الحديثة إلى تأكيد نفسها أمام التحدى الحضارى الغربى بجميع أشكاله، مما دفعها للنكوص إلى مواقع خلفية للاحتماء بها والدفاع انطلاقا منها.

حيث رفعت «السلفية الدينية» شعار الأصالة والتمسك بالجذور والحفاظ على الهوية من منطلق أن الأصالة والجذور والهوية هى الإسلام ذاته «الإسلام الحقيقى» لا إسلام المسلمين المعاصرين. وهذه الآلية الدفاعية المعروفة مشروعة فقط عندما تكون جزءا من مشروع للقفز والطفرة، لكن الذى حدث هو العكس تماما، فقد أصبحت الوسيلة هى الغاية، فالماضى الذى أعيد بناؤه بسرعة قصد الارتكاز عليه للنهوض أصبح هو نفسه مشروع النهضة، حيث لم تنتج هذه القراءة السلفية سوى نوع واحد لفهم التراث، هو «الفهم التراثى للتراث»، فالتراث يحتويها وهى لا تستطيع أن تحتويه لأن التراث يكرر نفسه.

أما التساؤل الذى يطرحه التيار الليبرالى فى علاقته بالتراث فهو «كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟» والحوار فى هذا السياق حوار بين الحاضر والماضى، ولكن لا حاضرنا نحن بل حاضر الغرب الأوروبى الذى يفرض نفسه بوصفه ذاتا للعصر كله وللإنسانية جمعاء، وبالتالى فهو أساس كل مستقبل ممكن، بل إن أثره ينسحب على الماضى نفسه ويلونه بلونه. فالليبرالى العربى الحديث يقرأ التراث العربى الإسلامى برؤية غربية لا ترى فيه إلا ما يراه الأوروبى، ويتعلق الأمر عندئذ بـ«سلفية استشراقية» تقدم نفسها بوصفها قراءة عملية تتوخى الموضوعية وتلتزم الحياد، نافية أن تكون لها أية دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.

والرؤية الاستشراقية تقوم من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات، على قراءة تراث بتراث، مجتهدة فى رد كل شىء إلى أصله، وعندما يكون المقروء هو التراث العربى الإسلامى، فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ فى رده إلى «أصوله» اليهودية والفارسية والهندية..إلخ.

تقول القراءة الاستشراقية أنها تريد أن «تفهم» ولا شىء غير ذلك. ولكن ماذا تريد أن تفهم؟ تريد أن تفهم مدى «فهم» العرب لتراث من قبلهم. لماذا؟ لأن العرب الذين كانوا واسطة بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، إنما تتحدد قيمتهم بهذا الدور نفسه، الشىء الذى يعنى أن «المستقبل» فى الماضى العربى كان فى استيعاب ماضى غير الماضى العربى وبخاصة الثقافة اليونانية، وبالقياس يصبح «المستقبل» فى الآتى العربى مشروطا باستيعاب «الحاضر ـ الماضى» الأوروبى. حيث نجد أنفسنا أمام استلاب خطير للذات يبدأ بالتاريخ والحضارة وينتهى بالتبعية المستقبلية.

أما التساؤل الذى يطرحه التيار اليسارى فى علاقته بالتراث فهو «كيف نحقق ثورتنا؟ كيف نعيد بناء تراثنا؟» والحوار فى هذا السياق حوار بين المستقبل والماضى، ولكن بوصفهما مجرد مشروعين: مشروع الثورة التى لم تتحقق بعد، ومشروع التراث الذى سيعاد بناؤه بالشكل الذى يجعله صالحا للقيام بدوره فى دفع الثورة وتأصيلها.

العلاقة هنا «جدلية» مطلوب من الثورة أن تعيد بناء التراث، ومطلوب من التراث أن يساعد على إنجاز الثورة، والفكر اليسارى العربى تائه فى هذه الحلقة المفرغة باحثا عن منهج للخروج منها. ذلك لأنه لا يتبنى المنهج الجدلى كمنهج للتطبيق، بل يتبناه كمنهج مطبق. وهكذا فالتراث العربى الإسلامى يجب أن يكون انعكاسا للصراع الطبقى من جهة، وميدانا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى.
وهكذا تنتهى هذه القراءة اليسارية العربية للتراث العربى الإسلامى إلى «سلفية ماركسية» أى إلى محاولة لتطبيق طريقة تطبيق السلف الماركسى للمنهج الجدلى، وكأن الهدف هو البرهنة على صحة المنهج المطبق لا تطبيق المنهج.

لهذا فهو يرى أن الفكر العربى الحديث والمعاصر فى معظمه سلفى النزعة والميول، وإنما الفرق بين اتجاهاته وتياراته يكمن فى نوع السلف الذى يتحصن به كل منها. فكل هذه التيارات تعتمد من وجهة نظره فى منهجها العقلى على ما سماه الباحثون العرب القدماء بـ«قياس الغائب على الشاهد» دون مراعاة الالتزام بشروط صحة هذا القياس التى تتطلب أولا التأكد من اشتراك الطرفين فى الصفات والخصائص الجوهرية.

وقد أدى ترسيخ آلية هذا القياس المغلوط، التى أصبحت «الفعل العقلى» العربى الوحيد الذى يعتمد عليه فى إنتاج المعرفة، إلى أن عبارة «وقس على ذلك» أصبحت تغنى عن مواصلة البحث والاستقصاء، كما أدت إلى نتيجة خطيرة تتمثل فى إلغاء الزمان والتطور: فالحاضر، كل حاضر، يقاس على الماضى، وكأن الماضى والحاضر والمستقبل عبارة عن زمان راكد.

فالفكر العربى الحديث والمعاصر فى مجمله فكر لا تاريخى، يفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية لعدم فصله بين الذات والموضوع. ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضى وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل. وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الدينى، فهو ينطبق أيضا على التيارات الأخرى باعتبار أن لكل منها سلفا يتكئ عليه ويستنجد به.

فقد كان الجابرى يرى أن النشاط الذهنى جزء أساسى من بنية العقل العربى الذى يتعين فحصه بدقة، ونقده بكل صرامة قبل الدعوة إلى تجديده أو تحديثه، لأنه لن يتجدد إلا على أنقاض القديم. لكن نقد الجابرى فى مجمله كان نقدا محبا يهدف إلى إعادة البناء على أساس سليم، يحدد جوهره فى حاجة العقل العربى اليوم إلى إعادة الابتكار.

هذا نموذج من فكر الجابرى الذى اشتهر بأنه كان لا يبحث عن شهرة ولا يحب الأضواء ويرفض المناصب والجوائز. فقد اعتذر مرتين عن عدم تقبل العضوية فى أكاديمية المملكة المغربية، كما اعتذر عن جائزة المغرب للكتاب عدة مرات لعديد من الوزراء فى عهد الملك الراحل الحسن الثانى، كما اعتذر عن عدم الترشح لجائزة صدام حسين مرتين فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى، كما اعتذر عام 2002 عن عدم تسلم جائزة العقيد معمر القذافى لحقوق الإنسان، وقد كانت قيمتها فى ذلك الوقت 32 ألف دولار.

التعليقات