مَنْ يگتب الدستور؟ - علاء عبد الفتاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مَنْ يگتب الدستور؟

نشر فى : الجمعة 10 يونيو 2011 - 9:21 ص | آخر تحديث : الجمعة 10 يونيو 2011 - 9:21 ص
26 يونيو 1955، كيب تاون، بالقرب من جوهانسبرج: تجمع الآلاف فى ساحة أشبه بميادين تحريرنا، وافترشوا الأرض للمشاركة فى «مؤتمر الشعب» والتصويت على بنود «ميثاق الحرية»؛ منصة يعتليها ثائر يقرأ مواد الميثاق بلغة شعرية، وميدان عامر حاشد يهدر بهتاف «أفريقيا! أفريقيا!». طوال يومين عاشت كيب تاون أهم تجربة ديمقراطية فى التاريخ، قبل أن تقمعها قوات شرطة الفصل العنصرى. ولكن الشرطة كعادتها جاءت متأخرة عاجزة عن قمع الحرية، وتم إقرار الميثاق الذى صار دستور حركة التحرر، ليصبح بعدها بأربعة عقود المرجعية الأساسية لصياغة دستور جنوب أفريقيا الحرة.

 

نحن، شعب جنوب أفريقيا، نعلن للأمة ولسائر شعوب العالم أن: السلطة للشعب، ولكل طوائف الشعب حقوق متساوية، وثروات البلاد ملك للشعب. سيتشارك فى الأرض من يزرعها، والكل متساو أمام القانون. للكل حقوق متساوية، وهى المعروفة بحقوق الإنسان. سيتوافر العمل والأمان، وتفتح أبواب العلم والثقافة. سيتوافر المسكن والأمن والراحة، ويعم السلام والصداقة. هذه الحريات سنناضل من أجلها، كتفا إلى كتف، طوال حياتنا، إلى أن ننال حريتنا كاملة».

لم تكتب المنصة تلك المواد، لم يتحدث الآلاف فى الميدان باسم الشعب من العدم، وإنما سبق المؤتمر شهور من الإعداد، انتشر فيها نحو خمسين ألف متطوع بطول وعرض البلاد لسؤال كل من قابلوه سؤال بسيط جدا: «ما هى جنوب أفريقيا التى تحلم بها؟».

جمع المتطوعون الإجابات وأرسلوها للجان منتخبة من كل منطقة لتفرز الإجابات ويتم تجميع المتشابه منها فى عريضة مطالب. ثم رفعت اللجان الفرعية المطالب للجان منتخبة أخرى تمثل المحافظات لتلخيص المطالب ورفعها للجنة صياغة. حضر المؤتمر كل أعضاء اللجان المنتخبة وممثلو النقابات العمالية والأحزاب الثورية والتنظيمات الشعبية الأخرى. شارك الشعب كله فى صياغة الميثاق وبالتالى فى صياغة الدستور.

بدأت الفكرة أصلا عندما وجد حزب المؤتمر الأفريقى (حزب مانديلا) نفسه فى مأزق. فبعد تراجع ملحوظ فى المشاركة فى النضال ضد سياسة الفصل العنصرى، قررت قيادات الحزب الشابة أن توسع رقعة النضال بتبنى قضايا اقتصادية واجتماعية، وبدءوا بحملة لإقرار حد أدنى عادل للأجور. ولكن سرعان ما تتبين لهم المسافة التى تفصلهم كنشطاء ونخبة سياسية عن جموع الشعب، فقرروا إقامة المؤتمر وصياغة الميثاق لتكون القيادة للجماهير. قرروا إذن أنهم بحاجة لحملة توعية سياسية تكون الجماهير فيها المُعلم بينما يكون الساسة والنشطاء تلاميذ.

وبالفعل غيّر المؤتمر والميثاق الحزب جذريا. أولا، لم يكن بمقدرة حزب واحد تنظيم نشاط بهذا الحجم، فاضطرهم طموح الفكرة إلى التعاون مع جميع الأحزاب والحركات المناهضة للنظام، عابرين حدودا أيديولوجية وعرقية وطبقية ودينية، ومنها ولدت حركة التحرر الوطنى كحركة جامعة.

ثانيا، على مستوى الأيديولوجيات، حيث حسم المؤتمر جدلا دار داخل الحزب ما بين رؤية أفريقية ترى الحل فى تحرر الرجل الأسود كجزء من محاربة الاستعمار فى القارة، وبين رؤية ترى الحل فى نضال مشترك للمساواة ما بين كل من يعيش فى الوطن باختلاف أعراقهم بمن فيهم البيض. ثالثا، على مستوى الأولويات، حيث كان المؤتمر أول فرصة حقيقية للنخبة السياسية للتعرف على مشاكل وطموحات الفلاحين.

ومع إقرار الميثاق تغير التاريخ. سقط النظام فى عقول الجماهير فى ذلك اليوم حتى وإن احتاج لأربعين عاما ليسقط فعلا. ووُلد الشعب ككيان موحد بعد أن فرقه الاستعمار والنظام إلى أعراق وقبائل، وُلد بهدف موحد ورؤية تتوارثها الأجيال وتقبل دفع ثمنها بالاستشهاد والتعذيب والاعتقال. حمى الشعب شرعية الميثاق إلى أن سقط النظام وبقى الشعب. وتجسدت شرعية الميدان فى دستور بديع مستلهم من ميثاق الحرية، واستمر الشعب فى حماية ميثاقه ودستوره.

واليوم فى ميدان آخر نتجادل حول صياغة دستور جديد للجمهورية المصرية الثانية، ويسيطر علينا منطق أن من سيصوغ الدستور سينوب بنفسه عن الشعب. وبالتالى انحصر جدلنا فى متى يصاغ الدستور وما أفضل طريقة لاختيار من ينوب عن الشعب. وكعادة النخب التى تؤمن أن النيابة مصيرها وحقها، يلتبس الأمر أحيانا ويظن من يسعى أن ينوب أنه وصى على الشعب. والصراحة ألا فرق هنا ما بين فريق الدستور أولا وفريق البرلمان أولا، وأخشى أنهم اتفقوا على أن دور الجماهير ينتهى عند صندوق الانتخاب.

ويبدو أن التصور الشائع هو أن اجتماع القوى السياسية المختلفة وتوافقها يعنى أن الشعب كله مُمثَّل. بينما كل الشواهد تقول أن القوى السياسية فى مصر (بما فيهم أكثرها شعبية كالإخوان) منفصلة عن عموم الجماهير. وظهر هذا بوضوح فى الميدان، حيث وجدت الأحزاب والحركات السياسية والنشطاء أنفسهم أقلية منعزلة لدرجة ما، حتى وهم يلعبون دورا قياديا أحيانا. هذا الانفصال، إن لم نعترف به، سيؤثر سلبا على عملية صياغة الدستور.

ولنا فى تجارب لجان الوفاق عبرة؛ فمشاركة الشعب تؤدى إلى ميثاق ثورى مكتوب بلغة شعرية ينادى بفتح أبواب العلم والثقافة للجميع، بينما لقاء خبراء فى غرفة مغلقة نتيجته أن يقترح علينا أحد رموز العدالة إعطاء ثقل أكبر فى الانتخابات لأصوات المتعلمين. هل يمكن تصور أن يخرج هذا الاقتراح من وفاق وطنى يشارك فيه من لم يكتب له حظ وافر من التعليم؟ هى وصاية إذن لا تمثيل ولا وفاق.

صحيح أن مبارك فصل الدستور البائد على مقاسه، لكن الحقيقة أن الكثير من الانتهاكات والتعديات فى ظل نظامه تعارضت مباشرة وبشكل صارخ مع مواد الدستور، فالتعذيب بالتأكيد لم يكن سلوكا دستوريا حتى تحت أحط الدساتير. لم يحمنا الدستور إذن.

بل علينا أن نتساءل: ما قيمة دستور يصاغ بدون مشاركة شعبية حقيقية؟ حتى لو كان دستورا مثاليا، فهو يظل حبرا على ورق ما لم يتوفر توازن قوى يفعّله ويحميه. الميثاق الشعبى صاغه الشعب، وتحول هو والدستور المنبثق عنه إلى عقد اجتماعى حقيقى وجزء من هوية الشعب تتوارثه الأجيال، والشعب حامٍ لشرعيته الثورية والدستورية. بينما أنتج لنا الوفاق حلولا كارثية للخروج من هذا المأزق، مثل تسليط الجيش كحامى لمدنية الدولة، مما يستدعى بالضرورة ألا تخضع مؤسسة «سيادية» ذات قدرات قمعية واسعة وذات تاريخ من الانتهاكات والتدخل فى الحكم لأى رقابة من هيئات منتخبة.

لنكن متواضعين؛ مانديلا ورفاقه احتاجوا دروس الجماهير لتوعيتهم سياسيا. لماذا نفترض أننا أفضل منهم؟ لماذا، ما دام اتفقنا أن الدستور أحد أهم أهداف ثورتنا المستمرة، لا نشرك جماهير الثورة فى صياغته؟
هل نحتاج أن نمر بتجربة مشابهة لجنوب أفريقيا ونشترك جميعا فى نشاط جماعى لرسم مصر التى نحلم بها؟ وماذا سينتج عن انخراط عشرات الآلاف فى جمع الحلم من منابعه الشعبية؟ ربما نصل إلى وفاق حقيقى ونستعيد وحدة صفنا، ربما نكتشف أولويات قد غابت عنا؛ فعادة الأحزاب مثلا تجاهُل قضايا البيئة أو الاكتفاء بالإشارة إليها بكلام مرسل، لكن ربما إن انصتنا للصيادين فى بحيراتنا وشكواهم من تدمير المصايد بسبب جشع شركات الصيد الدولية اكتشفنا لأى مدى هى قضية ملحة مرتبطة بالعدالة الاجتماعية وبحاجة لحماية دستورية حقيقية. ربما نحتاج أن نعطى لأهل البرلس، الذين ناضلوا طويلا من أجل شربة ماء، فرصة لتوعيتنا بمعنى أن تكون محروما من المياه العذبة وتذكيرنا بمكانة المياه كأحد الحقوق الإنسانية الأساسية.

أما الجدل المحتدم الآن حول من سيصوغ الدستور فيجب أن يتحول من نقاش حول محتوى الدستور إلى نقاش حول كيفية اختيار الجمعية التأسيسية، فالتعديلات الدستورية والإعلان الدستورى لم يحدد تفاصيل. يمكننا الاتفاق مثلا على تمثيل نسبى للنساء والشباب والأقليات الدينية، وتمثيل من كل محافظة، وحصص مخصصة لممثلى النقابات المهنية والعمالية والفلاحية، ومقاعد لنشطاء وحقوقيين ومبدعين إلخ. أما الأهم فهو الاتفاق على آليات عمل الجمعية التأسيسية.

علينا أولا التخلى تماما عن فكرة أن صياغة الدستور أمر بسيط يمكن أن يقوم به خبراء فى وقت وجيز استنادا إلى دساتير جاهزة. فسؤال واحد من الأسئلة الكبرى المطروحة (رئاسية أم برلمانية مثلا) يستدعى نقاشا مطولا قد يدوم لأسابيع. ومن الضرورى أن تكون المداولات علنية وأن تعقد جلسات استماع ليتسنى للمواطنين ومؤسسات المجتمع المدنى وتنظيماتنا وحركاتنا المطلبية والسياسية أن تشارك فى النقاش.

إن مَزَجنا بين وثيقة شعبية تعبر عن طموحاتنا وأحلامنا المشتركة، وجمعية تأسيسية بها تمثيل لكل الفئات منتخبة من قبل الشعب (انتخاب مباشر أو عن طريق البرلمان)، وآليات عمل مفتوحة للمجتمع المدنى، سنؤسس فعلا لجمهورية ثانية بعقد اجتماعى حقيقى، ووفاق وطنى فعلى، وشرعية دستورية وشعبية وثورية كاملة. وقتها يمكننا أن نقول إن السلطة فعلا للشعب.
التعليقات