المُوظ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 12:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المُوظ

نشر فى : الأربعاء 11 فبراير 2009 - 7:28 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 فبراير 2009 - 7:28 م

 ما بينهما يشبه ما بين الموظ والموظ!
والموظ نوع من الأيائل الضخمة ذات الظلف، تحيا فى منطقة المراعى القطبية أو «التوندرا» التى تغطيها الثلوج معظم السنة باستثناء ثلاثة أشهر؛ لدفء محدود لا ترتفع درجة الحرارة فيه على 10 درجات مئوية تسمح بالكاد بنمو غطاء عشبى شديد الفقر، وما أن يبزغ دفء الربيع حتى تسخن الدماء فى عروق ذكور الموظ، وتنبت فى رءوس هذه الذكور قرون تنمو بسرعة عجيبة تتسع وتتشعب ويكسوها زغب قطيفى، فتبدو كأزواج من مظلات جريدية مفلطحة تتوج الرءوس، وهى ليست مظلات فقط، بل هى أجهزة تكييف مدهشة تسحب الحرارة من داخل الأجسام وتبددها عبر الزغب، فيبرد الجسم الحرّان دون أن تتسلل إليه حرارة الجو.
آلية ربانية مذهلة العبقرية لمنع غليان الدماء فى رءوس كائنات شديدة الحساسية للحرارة، لكن التنافس الدميم يجلب الغليان لبعض هذه الرءوس، فثمة موظان بارزان تعميهما غواية الانفراد بموظة لعوب، يندفعان فى العراك متناطحين بتلك القرون المُحلِّقة، ويكون لتناطحهما ضوضاء يملأ الآفاق، وتشل حركة القطيع المرعوب من هول التناطح والعجز عن إيقاف التقاتل بين الخصمين. لكن هذا التقاتل لا يستمر طويلا، بل يخمد كالنار التى تأكل نفسها بنفسها، ويرتمى الفحلان منهكين يجمعهما شرك واحد: لقد تشابكت قرونهما تشابكا لا قدرة لهما أو لغيرهما على فك التحامه، ولا يكون أمام القطيع المصدوم إلا تركهما والمضى بعيدا؛ لسد الجوع وإرواء العطش وإرضاع الصغار من حليب ما تأكل الأمهات وتشرب.
وفى عراء «التوندرا» التى تعصف بها الرياح الهوج، يواجه الموظان المشتبكان مصيرين لا ثالث لهما: إما أن يموتا فى المكان جوعا وعطشا، ثم ينتفخان وينفجران وتجذب روائح عفنهما ضباع الشمال وعقبان الثلوج وديدان الأرض، أو أن يتم نهشهما وهما حيان بأنياب ثعالب الثلج وذئاب الجليد ومخالب الدببة القطبية.
وبينما يتكرر هذا السقوط الأحمق لأفراد من ذكور الموظ فى موسم الدفء الضنين، يواصل القطيع سعيه للرى والرعى مبتعدا عن التحلل والتعفن ونهش الأنياب والمخالب. لكن الجماعة البشرية المغلولة بحدود وجدران وبوابات ومعابر وطوق خانق من أحقر ضباع التاريخ وأسفل المخاتلات الدولية، هذه الجماعة البشرية تظل مشدودة إلى بيوت بنتها وشجر غرسته وشوارع مهدتها ومراقد أحباب غادروا وما غادروا.
هذه الجماعة البشرية تجد نفسها مسفوحة فى حومة الضوارى التى جذبها ضجيج اشتباك بين وعلين بشريين كذابين من أبنائها، أحدهما يستهويه حب المنظرة، وثانيهما يحركه داء السيطرة، الأول يرتدى قناع الواقعية والموضوعية وهو شديد الانبطاح فى التفريط والتنازل حفاظا على السطوة والثروة، والثانى يدعى أنه وكيل الدين فى الدنيا ليخطف عواطف الناس، فى حين أن ممارساته لا تجيد غير القهر والنحر والكثير من سيكولوجية العصابة.
ولا يكون أمام هذه الجماعة البشرية فى مثل هذا الفخ إلا أن تذود عن بيوتها وشجرها وشوارعها ومراقد أحبابها، تذود عن نفسها، وأيا كان مصير هذه الجماعة البشرية فى هذا المسلخ، فإنها تخرج منه حتما ولو دامية، ولن تَبيد، لكن منطقا جديدا فوق حمّام الدم وأطلال الخراب ينبغى أن يفرض بداهته: لا تحشرنى بعد الآن بين اختيار هذا أو ذاك، فلا هذا ولا ذاك، بل اختيار ثالث، اختيار ينبذ من يدعى أنه وكيل الله فى الأرض، كما ينبذ من يريد بالتقادم ووضع اليد أن يرث الناس الأرض.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .