الحب الأول - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 3:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحب الأول

نشر فى : الأربعاء 11 مارس 2009 - 7:48 م | آخر تحديث : الأربعاء 11 مارس 2009 - 7:48 م

 أكثر من مائة مليون ينطلقون معا، فى برهة وجيزة، مقذوفين بقوة دفع افنجارية، ليصعدوا فى مدارج عالم غامض، لا يعرفون عنه شيئا، ولا يعرفون شيئا عن أنفسهم، يهلك فى رحلة الصعود المحموم هذه ملايين منهم، ولا يتبقى غير مئات يسبحون فى عماء، وبدفئه وزلاقته وتموجاته المكنونة، يقودهم هذا العماء للاندفاع قُدما، بلا وعى، ولا إرادة، حتى يوقفهم اصطدام مفاجئ بكوكب مجهول، كرة هائلة حية.. إنها البويضة.

يصيب الاصطدام مئات الحيوانات المنوية بالفزع، ويتمنى كل واحد منهم لو يتراجع ويهرب، لكنهم يكونون منغرزين فى هلام أصفر كثيف، يتكون من طبقة الخلايا الدقيقة الحامية للبويضة والمغذية لها، أما البويضة الخجول، والمختبئة فى ثنايا الجزء الأوسط من قناة فالوب، فإن فزعها لا يكون أقل من فزع المصطدمين بها، لكن ارتباكها وحجمها يحولان بينها وبين التفكير فى الهرب.

فى هذه اللحظة من التورط المفاجئ والارتباك المشترك، يقع انقلاب ما تنجذب البويضة إلى واحد فقط من بين مئات الحيوانات المنوية المرتطمة بها، وتترك له، وحده، أن يفتح فى جدارها ثغرة تساعده على فتحها وولوجها، ثم تغلق عليه هذه الثغرة، بل تغلق كل محيطها بإفراز كثيف سرعان ما يقسو ، ويتحول إلى جدار صلب يوقف بقية المرتطمين خارجه، ليواجهوا مصير الموت والتلاشى.
سلوك يبدو قاسيا للغاية من البويضة، لكنه شأن كل الأمور الفاصلة فى الحياة يحتم الاختيار، فالإخصاب لا يتحقق إلا بهذا الانفراد، لأن نفاذ حيوانين منويين أو أكثر داخل البويضة، يعنى حتما موتها، وموتهم!

وبعد أن تُغلِق البويضة دنياها على هذا المختار، المرتبك الضائع عند أطرافها، يحدث شىء مثير للدهشة، مادى وكيماوى تماما لكنه أقرب إلى الشِعر فمن أعمق أعماق الأنوثة الكامنة فى كيان البويضة، ينطلق عطر غامض وساحر، نعم عطر، ويتحول الحيوان المنوى الذى كان راغبا فى الهرب إلى مسحور مجنون، يندفع باتجاه أعماق هذا السحر مشوقا إلى معانقته، حتى لو كانت فى هذا العناق نهايته كمخلوق متفرد، وهو ما يحدث بالفعل.

يفقد الحيوان المنوى فى البدء ذيله الذى يتحرك به، ثم يفقد غلافه ويتحول إلى مجرد مادة وراثية عارية، تأخذ البويضة نصفها، وتكمل هذا النصف من عندها، ومن هذا الذوبان فى قلب البويضة، التى لا تفقد شيئا من كينونتها، يتكون الجنين، المخلوق الجديد.

إنه لقاء كونى ليس ماديا فقط، بل هو معنوى ورمزى ونفسى، بل روحى إذا شئنا، فالحيوان المنوى يكتشف ذكورته فى هذا اللقاء، بينما البويضة تعثر على أنوثتها، كل منهما، حقيقة، يكتشف نفسه بينما يكتشف الآخر.

الحب الحقيقى الأول بضخامة تأثيره لا بترتيبه بين الرجل والمرأة يكون كذلك، ليس مجرد اكتشاف للحبيب، بل اكتشاف للذات فى وجود المحبوب، لهذا لا يمكن نسيانه، لأنه ببساطة ووضوح، يصير جزءا من الذات، أعمق أعماق الذات.

الوطن أيضا، فيه هذا النوع من الحب، اكتشاف الذات الاجتماعية والعضوية للفرد، عبر أول تلامس مع الهواء الذى يتنفسه الإنسان، والناس الذين يكبر بينهم، والأرض التى يحيا عليها، والتى فى النهاية تضمه، مستودعة إياه فى قلبها، وهو لا يتمنى غير هذا القلب أن يحتويه.

وكما أن خيانة الحب الأول، هى خيانة للذات، كذلك خيانة الوطن، خيانة أمنه وأمانه، خيانة العدل والحرية اللذين يشكلان جوهر كل أمن، ونبض أى أمان خيانة جسيمة لا يمكن تناسيها، وعقوبتها أشد هولا من المشانق والمقاصل والسجون، لأن من يصدرها قاض ذاتى، داخلى مستقل ولا إرادة لصاحبه عليه، اسمه الضمير، أو الأنا العليا، وهو قاض غير قابل للرشوة ولا الإبعاد، ثم إنه يُصدر الأمر وينفذه على الخائن: تنغيص داخلى لا تعالجه مهدئات ولا منومات ولا مضادات اكتئاب، كما لا يوقفه الغرق فى كل ملذات الدنيا وملاهيها، إنه كابوس نوم ويقظة، يجعل من نماذج المخادعين والخونة محض أعجاز نخل خاوية، أقنعة للفخامة والجلالة والمعالى والسيادة والعز، تُخفى وراءها خرائب روحية لا تعرف رضا النفس ولا يعرفها رضا الله والناس.

كل هؤلاء الأصنام المنتفخين بالسلطة والسطوة والنفوذ والثروة الحرام، متى ما أوغلوا فى خيانة حبهم الأول وطنهم وناسهم بكل أطياف خيانات الاستبداد والفساد، يتحولون إلى هشيم، لأنهم ينسفون ذواتهم الداخلية بهذه الخيانة، ويُساقون للغرق فيما يُنسيهم هشيم نفوسهم.. يأكلون بلا شبع، ويشربون بلا ارتواء، ويتهارشون بلا حب.. يوحلون فى النهب بلا حدود، والقمع بلا رادع، والكذب دون توقف، لكن هيهات أن يُرمِّم هذا الجنون هشيم، فهم رماد، أخف كثيرا من رماد أى حريق، لهذا عندما تهب الريح لا يحتملون نفخة، مجرد نفخة.

وما كل الذى يوغلون فيه من إمعان فى الأنانية والبغى والقسوة، كل أنواع القسوة، إلا رد فعل لهاجس ينهش سرائرهم اسمه: الريح!

فليت الريح لا تكون هوجاء أو عشواء أو عمياء، ليتها لا تكون بلطجية أو متعصبة.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .