الموسوعة البريطانية.. وداعًا - جميل مطر - بوابة الشروق
الإثنين 9 يونيو 2025 6:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الموسوعة البريطانية.. وداعًا

نشر فى : الأربعاء 11 أبريل 2012 - 10:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 11 أبريل 2012 - 10:40 ص

فكرة عبقرية أبدعها ونفذها عقل اسكتلندى فى أواخر السبعينيات من القرن الثامن عشر، عاشت 244 عاما قبل أن يقرر أصحابها فى منتصف مارس الماضى وقف إصدارها ورقيا بحجة أنها استنزفت غرضها وتجاوزت حدود صلاحيتها وتكاتفت لإزاحتها أفكار جديدة ليست أقل إبداعا ولكن أكثر حداثة.

 

تعرفت على الموسوعة البريطانية خلال المرحلة الجامعية فى مكتبة بمنزل أحد أساتذة الكلية التى كنت أدرس فيها، وكان عائدا لتوه من الخارج وفى صحبته مجموعة عظيمة من الكتب والمراجع وآمال كبار فى مستقبل باهر لمصر. أعجبت أشد إعجاب بأغلفة مجلدات الموسوعة وثراء مضمونها وبالهيبة التى أسبغتها على غرفة المكتبة وبنوع المعاملة التى رأيت الأستاذ يتعامل بها مع الموسوعة. بلغ إعجابى حد القبول فورا وبدون تردد، عرضا للعمل جزءا من الوقت «صبى مكتبة» عامة وأنا لاأزال طالبا بالسنة الثالثة بالجامعة.

 

●●●

 

مرت سنوات تنقلت خلالها من عمل إلى آخر وكان أول ما فعلت عندما تيسرت الأحوال المادية أننى اشتريت نسخة من الموسوعة البريطانية التى قضيت هذه السنوات أحلم باقتنائها. كنت فى ذلك الحين أشترك فى مكان العمل مع زملاء أربعة فى غرفة واحدة. وفى ذات يوم أبلغنا أحد السعاة بأن بائعا للكتب يقف بالباب الخارجى يريد الاجتماع بنا ليعرض ما لديه من مطبوعات منتقاة. دخل علينا رجل أنيق الملبس وتحدث بلهجة راقية لا نسمعها إلا فى دوائر الثقافة العالية. عرض علينا ما حمل وشرح باستفاضة مزايا كل كبيرة وصغيرة وخرج وهو يحمل عقودا وقعت عليها أنا واثنان من زملائى، اشترينا بموجبها الموسوعة البريطانية متعهدين أن ندفع للشركة قسطا شهريا لمدة عامين على الأقل، ومشترطين على البائع أن نتسلم فى أقرب وقت ممكن مجلدات الموسوعة بخزانتها الفاخرة المصنوعة من خشب الجوز ومعها أطلس عريض ومهيب للعالم وقاموس السبع لغات الشهير، ومجلد سنوى يحدّث ما يستحق التحديث من المعلومات الواردة فى الموسوعة أو يضيف إليها.

 

مرت بصعوبة بالغة شهور تسديد الأقساط وإن خففت من قسوتها عبارات أو نظرات الانبهار من الضيوف، أجانب كانوا أم عربا ممن ساقتهم الظروف لزيارتى فى مكتبتى. وبعد الوفاء بتسديد الأقساط استأنفت السفر من بلد إلى آخر، ولم نفترق موسوعتى وأنا إلا فترة قصيرة حين استأجرت شقة صغيرة فلم أجد مكانا يناسبها فبقيت داخل صناديقها لم تر النور خلالها ولم تقابل من يقلب صفحاتها ويصرح لها بانبهاره بها وتسمعه يحسدنى على اقتنائى إياها. لم نفترق باستثناء هذه الفترة القصيرة رغم أن نقلها من قارة إلى أخرى كان يكلفنى مبالغ ليست بسيطة وبالرغم من أننى كنت أقتنى فى كل مكان أحط فيه كتبا وموسوعات محلية وقواميس متنوعة وعند الرحيل الذى لا بد منه أرحل بدون بعضها وأحيانا بدون أغلبها.

 

●●●

 

مرت سنوات بل عقود. تغيرت الدنيا وتغيرنا وحلت معلومات جديدة محل معلومات عتيقة وظهرت تحليلات جديدة لقضايا قديمة. اختفت فى الأطالس الحديثة إمبراطوريات كانت تحتل صفحات فى الموسوعة بالعشرات، واستقلت مستعمرات أفاضت فى تفاصيلها الطبعة التى كانت فى حوزتى، وخرجت إلى الوجود دول لم تكن استقلت وأخرى كانت دويلات أو محافظات فى دول عظمى وكبرى. كانت يوغوسلافيا مثلا تملأ فى الموسوعة مساحات واسعة قبل أن تنفرط وتتحول مقاطعاتها إلى دول، يحتاج كل منها إلى صفحات عديدة بعد أن كانت تحتل صفحة أو أكثر قليلا. كنا نقرأ عن سلوفينيا وصربيا وكوسوفو وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا والجبل الأسود فى صفحات متتالية تحت عنوان يوغوسلافيا، تجاورت فى الموسوعة كما تجاورت فى الجغرافيا والسياسة، وعندما انفرطت يوغوسلافيا تباعدت المقاطعات عن بعضها البعض فى الموسوعات، فصارت الواحدة تفصلها عن الأخرى مجلدات وليس مجرد صفحات أو فقرات. تفرقت بالسياسة والحرب على أرض الواقع، وتفرقت بضغط الأبجدية على صفحات الموسوعة.

 

●●●

 

حانت ساعة الفراق، بعد معاشرة دامت عقودا كنت أجد خلالها من الدوافع على الدوام ما يدعم إصرارى على عدم التخلى عنها. لم أتوقع أن يأتى يوم تظهر لها فيه بدائل وتتعدد أغلبها لا يشترط اقتناؤها توفر مساحة معتبرة لتحتلها، أو عضلات قوية لتحملها، وخدمة يومية لدرء الغبار عن كل مجلد من المجلدات التى ناهز عددها الاثنين والثلاثين.

 

كنت أعرف أن رفيقتى الورقية هرمت وحان وقت اعتزالها وهى محتفظة بهيبتها ومكانتها، وليس بالضرورة قيمة نفعها العلمية والمعلوماتية. أعترف بأننى تجاوزت أصول العلاقة بيننا و حدود الثقة المتبادلة حين كنت ألجأ فى وجودها إلى موسوعة الويكيبديا الرقمية رغم علمى المؤكد بأن كثيرا مما تقدمه الويكيبديا بسخاء وبدون مجهود أو مقابل لم يكن على المستوى اللائق، أو المستوى الذى أستحقه.

 

●●●

 

 الموسوعة الرقمية التى أزاحت الموسوعة البريطانية كغيرها من بدائل كثيرة تغمر الآن أسواق العلاقات «المعلوماتية» تتميز بأنها سهلة وجذابة ومتجددة، وكغيرها من البدائل الإلكترونية تبدو ديمقراطية المظهر وإن كانت فى الغالب متواضعة المستوى، على عكس الموسوعة البريطانية، التى أبهرتنا بأرستقراطيتها شكلا ومحتوى، وسحرتنا بتقاليدها ودلالها ووقارها.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي