جماليات الشعر الغنائى - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جماليات الشعر الغنائى

نشر فى : الخميس 11 مايو 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الخميس 11 مايو 2017 - 10:00 م

أندهش كثيرا كلما تذكرت أن حصص النصوص فى المدارس تخلو تماما من تدريس أشعار العامية المصرية، أو من الشعر الغنائى، أو من الأزجال، أو حتى من مقتطفات من أشعار السير الشعبية الشهيرة مثل «السيرة الهلالية».. ولا أستوعب أبدا هذا المنهج العجيب الذى يصنف الشعر حسب لغته أو لهجته، وليس حسب خياله وصوره وموسيقاه، وهو منهج فاسد وغير صحيح، وكأن للشعر لغة معتمدة واحدة، وكأن هناك من لا يسمع ولا يعرف أبعد مما توارثه، وكأننا ما زلنا فى العصور الوسطى، ولسنا فى القرن الحادى والعشرين.
خذ مثلا الشعر الغنائى المصرى، الذى كتبه شعراء بدأ معظمهم حياته بكتابة الشعر الفصيح، والذى أثراه شعراء كبار مثل أحمد شوقى وأحمد رامى، كيف لا يكون تطور هذا الشعر، وجمالياته، وشعراؤه موضوعا للدراسة؟ وكيف يغيب عن واضعى المناهج أن هذا الشعر المغنى يمكن أن يكون بابا لكى يكتشف الطالب من خلاله كل أنواع الشعر الأخرى؟
إنه شعر يمتلئ بكل عناصر البلاغة، وهو فى معظمه سهل التناول، ومسموع ومحفوظ، وبالتالى لا يحتاج إلا لقراءة تفتح أعين الدارس على عالم الشعر بأكمله، وتأخذ بيده إلى تأمل ما يسمع، بل وإلى اكتشاف معنى الشعر نفسه.
يُكتب الشعر الغنائى بالأساس لكى يلحن ويغنى، أى أن كاتبه يمنح مساحات ضمنية لموسيقى قادمة، ويلون من مقاطعه وألفاظه، ليمنح للملحن والمغنى فرصة الإضافة والتعبير والأداء، وبذلك يمكن أن نعتبر أن الشعر هنا ملهم للموسيقى، هذه هى القاعدة العامة، وإن كانت هناك استثناءات حدث فيها العكس، حيث يقوم الشاعر بوضع كلمات على موسيقى سابقة..
من أمثلة ذلك، أغنية المجموعة «مصر يا أم الدنيا حبيبتى يا بلدى»، التى كتبها حسين السيد على جزء موسيقى من مقطوعة شهيرة هى «هدية العيد» لمحمد عبدالوهاب، وفى هذه الحالة ينعكس الوضع، وتلهم النغمات بالكلمات، ولكن فى الحالتين، فإن علاقة الشعر بالموسيقى تبدو أساسية وجوهرية.
فى أحيان كثيرة تستوقفنى صور بلاغية فى الأغنيات، وتتزايد دهشتى لأنها فعلا تتفوق على كثير مما تعتبره كتب النصوص الأدبية فى المدارس أشعارا، فكيف يمكن أن تمر مثلا هذه التركيبة البديعة التى كتبها حسين السيد مقدما ما يراه عنوان حكايته عما سواه، فيقول فى أغنية «ظلموه»: «أنا اللى السحر دايما كنت أهرب من عينيه»؟ وكأن «السحر» قد أعاد تركيب العبارة نفسها، وجعلها على هذا النحو المدهش.
وقد فعل صلاح جاهين شيئا مثل ذلك، وهو يبنى كلماته فى أغنية «مفترق الطرق» على هذا النحو: «حبيبى سكّر مرّ طعم الهوى»، لا شىء يمكن أن يتقدم الحبيب ولا السكر المرّ، وتعبير «سكّر مرّ» يستحق أن يكون عنوانا عريضا للقصة كلها، ولو رتب الكلمات بشكلها التقليدى الذى يفهم من العبارة لتكون «يا حبيبى طعم الهوى زى السكر المرّ»، لكان بناء القصيدة تقريريا، وأقل بلاغة وجمالا.
لطالما استوقفتنى صور مرسى جميل عزيز وتعبيراته، وأعتبره من أهم شعراء الرومانسية المصريين، وكلما استمعت إلى بيت له فى أغنية محرم فؤاد «سلامات يا حبايب»، أرى أمامى صورة فريدة ومبتكرة، يقول الشاعر:
«صورة بلدى وحبايبى/ مرسومة جوه قلبى/ مواويل تحت شجرة توت فى ضلّاية/ سواقى تدور تخلّى الشمس ورداية/ وصبيّة بتملى زلعتها/ وبتقول خدها ويّايا». خذ مثلا فقط هذا التعبير الفذّ: «سواقى تدور تخلّى الشمس ورداية»، كان يمكن أن يقول: «تخلّى الساقية ورداية»، ولكنه جعل الساقية الأرضية هى التى تعيد تشكيل الشمس السماوية، وليس العكس، «الأرض/ الوطن» يعيدان حتى تشكيل الشمس، يرسمانها من جديد، الشمس ليست هى الشمس فى كل مكان، الوطن وسواقيه هو الذى يجعل منها «ورداية».
مرسى جميل عزيز هو أيضا صاحب التعبيرات التى أصبحت أمثالا بعد أن قدمها فى أغانيه، هناك تعبير «من غير ليه» عنوان أغنيته، التى كان سيغنيها عبدالحليم، ثم غناها عبدالوهاب، وتعبير «وعايزنا نرجع زى زمان/ قول للزمان ارجع يا زمان»، من أغنية أم كلثوم «فات المعاد».
وحسين السيد أدخل أيضا إلى الثقافة المصرية تعبيراته التى نشرتها الأغنيات، فأصبح تعبير «ست الحبايب» هو اللقب المرادف للأم، وأصبح تعبير «وعشق الروح ما لوش آخر/ لكن عشق الجسد فانى»، من أغنية «عاشق الروح» لعبدالوهاب، تلخيصا لمعنى «الحب العذرى»، وربما يصلح أن يكون مدخلا حقيقيا لدراسته.
لقد أضاف الشعر الغنائى مع كبار شعراء العامية مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودى وسيد حجاب وفؤاد قاعود وعبدالرحيم منصور ومجدى نجيب تراثا هائلا لا يمكن تجاهله، تجديد كامل بلون وتراكيب وصور كل شاعر يدعو إلى التأمل: الأبنودى يصف بلدنا بامرأة «ع الترعة بتغسل شعرها»، وفؤاد حداد يجعل كل شبر وحتة من بلدى «حتة من كبدى حتة من موال»..
وسيد حجاب يدعو النسمة بأن تكون «مروحة للشقيانين العرقانين»، وفؤاد قاعود يطربنا بصوت سيد مكاوى معلنا :«أنا ساقى التقاوى غناوى»، وأحمد فؤاد يتغزل قائلا: «بعد ما بان ورد خدّك والله والربيع طول الزمان»، وعبدالرحيم منصور يكتب بيتا فريدا فى أغنية «حدوتة مصرية» فيقول: «يهمنى الإنسان ولو مالوش عنوان»، ومجدى نجيب يحفر وراء العبارة الفلكورية «قولوا لعين الشمس ما تحماشى»، ليصنع أغنية لا تُنسى على موسيقى سابقة لبليغ حمدى.
ليس جيل الكبار فحسب، وإنما أجيال أحدث كتبت مقطوعات من الشعر البديع، خذ مثلا: «فى قلب الليل» التى غناها على الحجار من كلمات عصام عبدالله، بكل دلالات الحكاية الرمزية، وبقدرة الشاعر الفذة على التصوير المعبر:
«فى قلب الليل
وعزف الصمت متهادى
كموج النيل
فى قلب الليل
وبرد الخوف بيتكتك سنان الخيل
وما فى حد فى الشارع
سوى مهر اتربط جازع
وشجرة سنط
وأنا.. والصمت
وبرد الليل
وخوف الليل»
هل هناك فى نصوص الشعر البائسة التى تدرس فى مدارسنا ما يشبه هذا الشعر؟ وما هى المساحة الواسعة التى يتيحها هذا الجزء الصغير للغاية، لكى يفهم الدارس معنى الشعر وجماليات البلاغة وموسيقى الشعر ومعنى الصورة الشعرية؟
هذه مجرد نماذج استدعتها الذاكرة عفو الخاطر، وبدون إعداد أو تحضير، ولكنها محاولة للتدليل على أهمية الشعر الغنائى المصرى، وضرورة الحاجة إلى رؤية واسعة تحبب الطلاب فى الشعر والموسيقى، وتبين لهم أن الشعر والموسيقى جزء من لغة الحياة والطبيعة والوجود، الشاعر فقط يلتقط بموهبته هذه اللغة ويترجمها إلى كلمات، الشعر فى كل مكان، وعند أطراف أصابعك، وبالقرب من أسماعك، ولكن المناهج العتيقة لا تسمح لك بأن تعرفه أو تتذوقه.
ربما أبدو متفائلا لو تمنيتُ استجابة سريعة لما أطالب به، كل ما أتمناه فقط ألا يكون عدم التفات واضعى المناهج للشعر الغنائى موقفا من الغناء نفسه، أى أنهم لا يستمعون إلى الأغانى أصلا، لأنها، والعياذ بالله، رجس من عمل الشيطان.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات