ــ1ــ
فى هذا اللقاء نحاول رصد سلبيات تعاملنا مع الأصل الأعلى للخطاب الدينى، ألا وهو القرآن الكريم. تلك السلبيات التى أخرجت خطابنا عن مداره، وانحرفت به بعيدا عن الغاية التى أنزله الله من أجلها. كما أن تلك السلبيات قد اجتمعت تحاول تعويق حركة القرآن بين الواقع البشرى العالمى، ورغم ذلك فإن القائمين على الخطاب لا زالوا يدورون فى حلقة مفرغة من التراث تستنفذ الجهد فيصابوا بالكلل والملل قبل أن يواجهوا نور القرآن الكريم. وأخطر ما فى ذلك التراث أنهم منحوه قداسة تشارك القرآن قداسته، إلا فى الصلاة فقط. لكن التفسير والتقديم والتأخير والإهمال يطول القرآن عند استخراج أحكامه.
ــ2ــ
وقد ضربنا أمثلة لبعض تلك الآليات والأدوات التى يباشرون بها التعامل مع القرآن الكريم مثل بدعة النسخ التى جعلتهم يقولون بوجود آيات نزلت فى القرآن بل وقرأها المسلمون زمنا ثم رفعت من القرآن فى العصر النبوى !!! بل إنهم يزعمون أن القرآن يضم حتى الآن آيات تقرأ ولا يتفاعل الناس معها لأنها آيات منسوخة!! وهذا كلام كما أشرنا إليه لا دليل عليه فى القرآن الكريم، ولا فى صحيح السنة النبوية. فكيف استقام عندهم معتقد النسخ فى حين أنهم يصفون القرآن بأنه «كلام الله القديم»، وكيف استقام ذلك عندهم وهم يقرأون ويعتقدون قوله تعالى: ((إِنَا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِكْرَ وَإِنَا لَهُ لَحَافِظُونَ)).
ــ3ــ
وهم قد وقعوا فى بدعة النسخ وانزلقوا إليها بسبب تغولهم فى مواريث الأمم الأخرى، وانهيار هؤلاء المفسرين حينما يعجزون عن الجمع بين بعض آيات القرآن فيخرجون من عجزهم بدعوى النسخ ويزعمون سندهم فى قول الله تعالى: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا..)). والظاهر من سياق آيات القرآن قبل تلك الآية وبعدها أن النسخ هو نسخ الآيات الكونية مثل نسخ النهار والليل ونسخ الشتاء للصيف ونسخ الإنجيل كله للتوراة ثم نسخ القرآن الكريم كله لما سبقه من الكتب كما يعتقد جميع المسلمين. أما مقولات زوال آيات قد نزلت وصلى الناس بها ثم رفعت من القرآن!!! أما وجود آيات تقرأ ولا يعمل بها فذلك قول مرفوض.
ــ4ــ
كذلك حينما صرح القرآن الكريم بأنه يضم ((..آياتٌ محكَمَاتٌ هُنَ أُمُ الكتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..)) لم يقصد بها وجود آيات غامضة أو مبهمة فى القرآن أبدا، فإن القرآن الكريم كما وصفه صاحبه سبحانه ((..كِتَابٍ مُبِينٍ) و((..كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَ فُصِلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)).. وما هذا المتشابه الذى أشار إليه القرآن إلا مراعاة القرآن لاختلافات قدرات الناس فى التلقى والتناول لألفاظ القرآن وآياته. ولفظ «متشابهات» يحذر المتعلمين من زعم التكرار، أما أن يتصور أحد أن فى القرآن الكريم متشابه تعجز الأمة عن تناوله وتحليله واستنباط أحكامه، فذلك تجاوز شديد فى حق القرآن الكريم.
ــ5ــ
كذلك فإن أبرز سلبيات تعاملنا مع القرآن الكريم تتجلى فى «العجز والكسل» المسيطرين على تناول القرآن واستخراج كنوزه. فى تلك الساعة لا تمتلك الأمة «منظومة قرآنية» للقيم ترتب قيم القرآن حسب مكانتها فى الوحى ودورها فى الأولويات، ويبدو أثر ذلك حينما يصطدم الفقه السياسى للأمة فى معالجته لفساد الحكومات فترى قولا غريبا يحلل ويبيح بل وربما يفرض العنف والخروج المسلح، ليس لإقصاء الفساد ومحاسبته، بل لقتل المفسدين. وفى نفس الوقت ترى قولا آخر يفرض «الصبر» !!! وأصبح مجال الحراك السياسى محاطا إما بتورط الفقه الشيعى فى العنف واستعمال القوة، وإما بعجز الفقه السنى !!! وقد تجاهل الفقه السياسى قيم القرآن الداعية إلى الحكمة والموعظة الحسنة والجدال المثمر.
كذلك تغافل الفقه عن تنظيم المجتمع ووجوب امتلاكه لمؤسسات تحكيمية محايدة محترمة تبسط هيمنتها على الجميع «حكومة ومعارضة» أو «أغلبية وأقلية» حتى لا تتناحر الأمة حتى نصل إلى الانتحار.. وذلك الذى كررنا الإشارة إليه هو مفتاح تجديد الخطاب ومدخل إصلاحه وإعادته إلى فلك النور القرآنى.