الديوان الأول والديوان الأخير - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 1:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديوان الأول والديوان الأخير

نشر فى : الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:32 ص | آخر تحديث : الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:32 ص
فى 8 أكتوبر 1973 كتب الشاعر صلاح عبدالصبور قصيدة عنوانها «إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء» بمناسبة نصر أكتوبر، ونشرها فى ديوانه الأخير «الإبحار فى الذاكرة» الصادر عام 1977. وفى يونيو 1956كتب قصيدة عنوانها «مرتفع أبدا» بمناسبة رفع العلم المصرى على مبنى البحرية فى بورسعيد، ونشرها فى ديوانه الأول «الناس فى بلادى» الصادر عام1957.

فهل اختلف التناول الفنى فى تصوير
الموقف الواحد لدى الشاعر نفسه بين ديوانه الأول وديوانه الأخير؟
للوهلة الأولى يلمح القارئ كثيرا من الملامح المشتركة بين النصين، فمن حيث الموضوع كلاهما يصور موقفا واحدا، ومن حيث البناء كلاهما يتكون من أربعة مقاطع، ومن حيث الطول يكاد يتساوى النصان فالأول 42 سطرا والآخر 40 سطرا، ومن حيث توجهات الخطاب فإن كلا النصين يستخدم صيغة المفرد المخاطب بصورها المختلفة (أنت والتاء والكاف)، ومن حيث الأفكار الرئيسية فإن المقطعين الثانى والثالث فى كلا النصين يؤكدان أن هذه اللحظة لا تعبر عن الجندى الذى رفع العلم فقط بل تعبر عن تاريخ طويل من كفاح الشعب بجميع فئاته وطبقاته، ومن حيث التصوير الشعرى يرتبط العلم ارتباطا واضحا فى النصين بالشمس والحرية، ومن حيث الإيقاع تتردد قافية الهمزة الساكنة بخاصة فى نهاية المقطع الثانى من النصين.

وعلى الرغم من كل هذه التشابهات التى قد توحى للقارئ بأن النصين متطابقين، فإن النظرة المتفحصة تكتشف العديد من التحولات الفنية الجوهرية التى تعكس خبرة الشاعر وتطوره.

فصحيح أن النصين يستخدمان صيغة المفرد المخاطب، لكن الشاعر يخاطب العلم فى النص الأول، ويخاطب الجندى الذى رفع العلم فى النص الثانى، مما جعله أكثر حميمية وإنسانية، ففى حين جاء خطاب العلم فى النص الأول معتمدا على الوصف اللفظى المباشر:

يا أيها العظيم، يا محبوب، يا رفيع، يا مهيب
جاء خطاب الجندى الذى رفع العلم فى النص الثانى معتمدا على التهويم الشعرى المعنوى المتعدد:

ولكن، كيف كان اسما هنالك يحتويك؟
وأنت فى لحظتك العظمى
تحولت إلى معنى، كمعنى الحب، معنى الخير،
معنى النور، معنى القدرة الأسمى

كما أن البنية الأسلوبية للنص الأول تعج بالأفعال المضارعة المسبوقة بلام الأمر فى المفتتح والختام وما بينهما، مثل: «لترتفع، لترتفع، يا أيها المجيد/ ليسترح على وساد الشمس خدك الرقيق/لتضحك السماء لك/لتحترق على المدى جسومنا لكى تنير أنت»،بينما يعتمد أسلوب النص الآخر على صيغة الاستفهام التى تشمل المقطع الثانى كله الذى تبدأ سطوره كافة بكلمة «تُراكَ» مثل «تُراكَ ذكرتنى»،والمقطع الثالث كله الذى تبدأ سطوره كافة بحرف الاستفهام «هل» مثل «فهل باسمى وباسمهمو لثمت النسج محتشدا»، والفارق كبير بين مباشرة الأمر وشعرية السؤال حتى إذا تشابهت الأفكار الرئيسية للنصين، فما يشغلنا عند تحليل الخطاب الشعرى هو البحث عن «كيف قال؟» وليس البحث عن «ماذا قال؟».

ولهذا فإن الفارق الجوهرى بين النصين فى رأيى يتمثل فى الكشف عن تطور تقنيات الشاعر الذى انتقل من كلاسيكية التصوير فى النص الأول إلى حداثته فى النص الآخر،حيث يقول مثلا فى القصيدة الأولى:

مضى إلى السكون من أحبابنا ألوف
كى يجعلوا قلوبهم تلا من التراب
يقوم فوقه العلم
ليفتلوا عروقهم سارية مجيدة
يزين فرعها العلم
لينسجوا أيامهم ديباجة خضراء
ترف فى الهواء
كوجهك النبيل يا علم
ومن بياض المقلتين حين تشخصان للسماء
تستمطران ــ فى ليالى اليأس ــ بسمة الرجاء
هلالك الوسيم يا علم

فإن الضجر قد يصيب الناقد الحديث من بساطة الرابط المنطقى السطحى الكلاسيكى بين طرفى الصورة، مثل: جبل القلوب وجبل التراب، وفتل العروق وفتل الحبال، ونسج الأيام الخضراء لتصبح بلون العلم، وانتقال بياض العيون إلى بياض هلال العلم. فكل هذه الصور ينتهى دورها بإدراك المتلقى السريع للرابط المنطقى بين المشبه والمشبه به دون أن يشعر بالصورة أو يبقى فى ذاكرته شىء منها.

أما قول الشاعر فى ختام القصيدة الثانية:
رأيتك جزع جميز على ترعة
رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة
رأيتك حائطا من جانب القلعة
رأيتك دفقة من ماء نهر النيل
وقد وقفت على قدمين
لترفع فى المدى علما
يحلق فى مدار الشمس، حر الخفق مبتسما

فإن الرابط المنطقى بين المشبه «الجندى» والمشبه به «جزع الجميز وصخرة الهرم وحائط القلعة ودفقة ماء النيل» عميق عمق التاريخ وغامض غموض الفن، أو قل غابت فلسفة التشبيه البلاغى المقيد بالرابط المنطقى وحل مكانها الخيال الشعرى الجامح، وهكذا تبقى الصورة الشعرية محلقة فى ذهن المتلقى الذى يظل مستمتعا فى كل قراءة لها باكتشاف معنى جديد.
التعليقات