بين الشحاتة والسيادة! - بلال فضل - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 11:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الشحاتة والسيادة!

نشر فى : الأحد 12 مايو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 12 مايو 2013 - 12:32 م

ليست حالتك الإقتصادية هي التي تجعلك كبيرا بين الدول، وإنما رؤيتك التي تدير بها علاقاتك الخارجية مع العالم. هذا ما أدركه لولا دي سيلفا الذي لم يكن مشبعا بأوهام من نوعية أستاذية العالم وأول نور في الدنيا شق ظلام الكون، لكنه أدرك أن من أبرز ما يمكن أن يميزه عن سلفه اليميني كاردوسو هو أن يبني سياسة خارجية بعيدة عن علاقات التبعية التي اختارها سلفه والتي شوهت سمعته وجعلته كما يقول المؤرخ بيري أندرسون «ناطقا من الدرجة الثانية بإسم الطريق الثالث وخزعبلاته بينما قام المبدأ الموجه لحكمه على الولاء للولايات المتحدة»، وهو ما امتنع لولا عن فعله منذ أول لحظة له في الحكم، دون أن يتورط في رفع شعارات إنتخابية عن مواجهة واشنطن ثم يراه الناس وهو يلحس حذاءها عند وصوله إلى الحكم.

 

كان لولا يعلم أن بلده فقير، لكنه كان يؤمن بأنه يستحق مكانة دولية تليق بحجمه وبأهميته الكامنة، ولذلك قرر أن يحول فقر البرازيل إلى ميزة نسبية في سياسته الخارجية، ويستخدم فقر بلاده كورقة ضغط في مواجهة سياسات التبعية للدول القوية، بدلا من أن يستخدمه كورقة للشحاتة التي تمارسها جماعة الإخوان مع العالم بمنطق «إنتو كفار وهتروحوا النار بس أبوس إيديكو ساعدونا يا كفار عشان ربنا ينصر الإسلام».

 

لم يقرر لولا أن يحجل في سياسته الخارجية، فيرفع شعارات الريادة بينما يتبع نهج الشحاتة، لم يتخبط في أنحاء العالم كالفرخة الدايخة محاولا أن يجمع بين محبة أمريكا وروسيا وإيران وألمانيا والصين وفرنسا، بل اتبع سياسة واضحة منذ البداية اختار لتنفيذها وزير الخارجية سيلسو أموريم الذي كان أبرز شخصية في حكومته، حيث كلفه لولا بقيادة جبهة من الدول الأكثر فقرا المحيطة به شمالا وجنوبا من أجل التصدي لمحاولات أوروبية وأمريكية لفرض المزيد من الإجراءات المتعلقة بالتجارة الحرة، وتجاوبت هذه الدول مع لولا ليس من منطلق شعاراتي، بل لأنه رأت في سياسته ما يحقق مصالحها دون عنتريات ولا حنجوريات، بل من خلال إجراءات منطقية يمكن تحقيقها، لخص لولا خطته في هدف بسيط هو «أنه يريد للعالم أن يشهد نظاما تجاريا متعدد الأطراف أقل إستبدادية»، وقد نجح ما سعى إليه بعد جهد، فكما يقول إندرسون «يعود إلى البرازيل الفضل الأكبر في فشل واشنطن ومنظمة التجارة العالمية في فرض إرادتيهما على العالم الأقل تقدما».

 

فعل لولا ذلك بذكاء وتدرج، دون أن يلحس حذاء أمريكا ودون أن يستثير عداءها الصريح، فأجبرها على الحذر منه ومحاولة كسب رضاه طيلة فترة ولايته الأولى، ثم تبلورت سياسته الخارجية أكثر في ولايته الثانية عندما أصبح لديه ثقل متزايد كقوة إقتصادية، حيث شارك في إنشاء مجموعة «البريك» في 2009 والتي جمعت رؤساء البرازيل وروسيا والهند والصين في سفيردلوفسك والتي أحدثت دويا عالميا عندما أصدرت بيانا يدعو إلى إحتياطي عملة عالمي بعيدا عن هيمنة الدولار الامريكي، وفي السنة التالية قام لولا بترسيخ موقع دولته السياسي الجديد عندما استضاف قمة مجموعة البريك في البرازيل نفسها. وكما يلاحظ بيري أندرسون فإنه بينما كانت البرازيل هي الدولة الوحيدة من بين الدول الأربع للمجموعة التي لا تمثل قوة عسكرية أساسية، فإنها كانت الوحيدة التي تصدت لإرادة الولايات المتحدة إستراتيجيا، فقد اعترف لولا بدولة فلسطين، بل رفض أيضا الموافقة على محاصرة إيران، حتى أنه دعا أحمدي نجاد إلى زيارة برازيليا، وكانت تلك الخطوة كما يقول أندرسون بمثابة إعلان استقلال البرازيل دبلوماسيا، فجن جنون واشنطن، وهاجت الصحافة المحلية التابعة لليمين ضد لولا، لكن الناخب المحلي لم يكترث لذلك الهجوم، لأنه أحب فكرة أن تبرز دولته كقوة عالمية، وبحلول نهاية عهد لولا، لم تأت شعبية لولا المتزايدة من التحسن المادي فقط، بل من الفخر الجماعي للبرازيليين ببلادهم أيضا.

 

كانت البرازيل قبل لولا تعاني من سياسات الإنعزال عن باقي أمريكا اللاتينية بفعل أنها تتحدث لغة مختلفة هي البرتغالية وبفعل حجمها وجغرافيتها، وكان تواصل البرازيل مع جيرانها قائما فقط على لجوء المناضلين ضد الحكم العسكري إلى كوبا والمكسيك، وهو ما تغير مع سياسات لولا التي استغلت صعود حكام جدد إلى أغلب دول أمريكا اللاتينية لبناء شبكة علاقات قوية، لكنه في نفس الوقت كان ذكيا بحيث وظّف لمصلحته وصول يساريين أكثر تشددا إلى الحكم في دول مثل بوليفيا وفنزويلا والإكوادور، فمد لهؤلاء ما سماه إندرسون «غطاء صداقة واقية» في نفس الوقت الذي استفاد لدى الراي العام الدولي من مقارنة صبت لمصلحته بين توسطه وتطرف تلك الحكومات، لكنه لم يحاول أن يفعل ذلك بإستخدام منهج الفكاكة والحداقة الذي يورطه في دعم تيارات متطرفة تنقلب عليه فيما بعد، بل أدار كل هذه التناقضات بحذر لم يجعله يفقد تركيزه الدائم على تحسين الإقتصاد وربطه بالسياسات الإجتماعية المحسنة من أحوال الفقراء، ولذلك عندما قرر أن يدير ظهره للولايات المتحدة التي كانت تعاني من أزمة إقتصادية بسبب سياسات بوش البلهاء، وتحالف مع الصين دعمه شعبه بقوة في وجه هجمات الإعلام والمعارضة، وكانت البرازيل بالفعل أكثر دولة في العالم تستفيد من إزدهار الصين الإقتصادي خاصة أنه لم يبن علاقته معها من باب مشاغلة أمريكا «لأجل تحن وترضى»، ولذلك ساعدته تلك العلاقة على تحقيق فلسفته التي كانت ترفع شعار «الإهتمام بالفقراء مسألة زهيدة الكلفة وبسيطة»، وهي فلسفة نجحت في رأي بيري أندرسون لأن «لولا امتلك الخيال الذي أتى من تماثله الإجتماعي مع فقراء بلده الذين أدرك أن الدولة تستطيع أن تكون أكثر سخاءا مع الأفقر حالا بطريقة تحدث تغييرات جوهرية في حياتهم، لكن دون أن يأتي ذلك على حساب الأثرياء وميسوري الحال الذين تحسنت أوضاعهم كثيرا في عهده أيضا».

 

وقد كانت تلك معادلة صعبة لنا عنها حديث غدا بإذن الله.

 

belalfadl@hotmail.com