أصلان .. عذوبة الاقتصاد - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:48 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أصلان .. عذوبة الاقتصاد

نشر فى : الجمعة 13 يناير 2012 - 9:25 ص | آخر تحديث : الجمعة 13 يناير 2012 - 9:25 ص

إنسان عذب، وكاتب عذب، ومدرسة متفردة فى القص العربى الحديث قوامها الاقتصاد الأدبى، ولعل عذوبته كإنسان وكاتب مردها إلى هذا الاقتصاد الجميل نفسه، ولأننى من القبيلة ذاتها التى خُلقت لتحكى، على حد تعبير جارثيا ماركيز، دعونى أوضح ما أرمى إليه بحكاية عن أصلان...

 

قدم إبراهيم أصلان للبلد الذى كنت مغتربا فيه بدعوة من أحد الفعاليات الأدبية فى ذلك البلد، وبعد أن قام بدوره فيما دُعى إليه تلازمنا لثلاثة أيام كاملة شعرت خلالها أن مصر التى كان يحرقنى الشوق إليها قد جاءتنى بأبدع ما فيها، نسمة مصرية إنسانية من نسائم العصارى شعرت بها وأنا بصحبته، وفى جولة للتسوق وجدته يعطينى ورقة بها اسم محل للملابس قدمها له أحد المصريين عندما عرف أنه يريد شراء هدية لولديه، لكن يبدو أن صاحبنا الذى ظن أنه يدله على «كنز» لشراء أشياء كثيرة بأسعار معقولة أخطأ فى قراءة أصلان، وكان الخطأ فاحشا!

 

 تركته يجول فى المحل الواسع بطوابقه المتعددة وأنا أتابعه من مسافة، وكان يتأمل المعروضات بما يشبه الألم، وعندما التقت أعيننا ابتسم هامسا «شوف يا أخى الواد... عمل فىَّ إيه»، ولم يزد، ولم أكن فى حاجة ليقول لى المزيد حتى أفهم ما يعنيه، فقد كانت ملامحه المميزة تنطق بما لم تبح به الكلمات، تأبطت ذراعه وذهبت به إلى محل مميز، يعرض قطعا جميلة بأسعار أغلى، وتركته يتجول وأنا أكرر متابعته دون اقتحام، كان يتفحص المعروضات كما لو كان يتأمل زهورا فى بستان، وكان يتوقف أمام أجمل المعروضات بالفعل، وفى النهاية اختار قطعتين مميزتين وإن بسعر كان يمكن أن يشترى به عشر قطع من المحل الذى أثار ألمه.

 

قليل جميل ولا كثير عادى، كانت هذه هى طريقته فى الكلام، وفى تناول طعامه بتأنٍ ورهافة لافتة، وهى الطريقة نفسها التى اتّبعها فى الكتابة، فصار صاحب مدرسة وربما رائدا فى الاقتصاد الأدبى فى القصة العربية، ولم يتوقف عند اكتشافه بل لونه وطوره مع توالى أعماله على نحو يقطع بأنه مغامر جرىء فى الأدب برغم وداعته البادية وتأنيه الجميل.

 

كانت مجموعته الأولى «بحير المساء» مفاجأة طازجة وعذبة للوسط الأدبى فى مصر والعالم العربى، ومن مشاهد بسيطة ودراما موجزة، صنع نصوصا لا تُنسى، وتنقلك عبر الرصد الخارجى للحركات والإيماءات والحوارات شديدة الإيجاز بالفصحى، إلى سبر أغوار الداخل فى الشخوص التى يحكى عنها، فينقل إليك شجنهم وآلامهم وأفراحهم الضنينة بأبلغ من أى استطراد بلاغى أو سرد مطول. وكانت هذه النصوص غير المسبوقة فى القصة المصرية، تأسيسا للنصوص التى تجعل القارئ يشارك كاتبها فى «تأليف مواز» يستنطق فيه ما سكت الكاتب عن البوح به، ويضىء ما أخفاه فى المناطق الظليلة.

 

صمت إبراهيم أصلان طويلا بعد بحيرة المساء، وطلع علينا برائعته مالك الحزين، التى يعترف بتواضعه الجميل أنها كانت قصة واستطالت رواية، وقد سلك فيها دربه الخاص فى الإيجاز السردى عبر الرصد الخارجى الدقيق كما فى بحيرة المساء، لكنه هنا قفز قفزة مفاجئة شديدة التوفيق، فقد وظف الروح الشعبى بكل حرارته الساخرة فى التقاط شخوص روايته التى باتت هذه المرة تنطق بالعامية القاهرية، ولكن بالإيجاز الغنى نفسه. وهى الرواية التى حولها الهائل داوود عبدالسيد إلى فيلم «الكيت كات» الذى دخل فى متن تاريخ السينما المصرية كواحد من أفضل مائة فيلم طوال هذا التاريخ.

 

فى نثر إبراهيم أصلان تجلّت خصائص مدرسته فى الاقتصاد الأدبى، فكانت مقالاته فى جريدة الأهرام وغيرها تلوينا يمزج ما بين فن القص عنده وقليل من أطر الصحافة، لهاذا كانت بمثابة نسائم هادية متفردة فى زحام اليبوس الصحفى. ولعله استفاد من الكتابة فى الصحافة فى صناعة نصوص بها سلاسة التوصيل الصحفى والتجسيد القصصى، وهو ما نطقت به كتبه التالية «فضل الله عثمان» و«خلوة الغلبان».

 

أما روايته «عصافير النيل»، فقد كانت أيقونة لضحك مصرى عذب لكاتب كبير مرهف وأستاذ اقتصاد لم يتخل عن قناعاته، وقد جعلتنى أتلوى ضحكا وأنا اقرأ مفارقات أبطالها العجيبين حتى صرت فرجة لمن حولى، وعندما أخبرته بذلك علّق بجملته الأثيرة القصيرة التى تشى بالحبور والرضا والدهشة الطيبة والخوف من الغرور: «لا يا شيخ»!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .