بين يدى الله - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 3:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين يدى الله

نشر فى : الخميس 13 فبراير 2014 - 4:40 ص | آخر تحديث : الخميس 13 فبراير 2014 - 4:40 ص

ليس بمقدورى أن أعاود الكتابة فى صحيفة «الشروق» دون أن أعبر عن امتنان غير محدود للمسئولين عنها الذين رحبوا برغبتى فى استئناف الكتابة فور عودتى من رحلة العلاج الناجحة بحمد الله، وأخص بالامتنان الأستاذ جميل مطر الذى تركت كلماته الدافئة لى فى الهاتف أطيب الأثر وأجمله. كذلك طوقنى عديد من قراء الصفحة بدين لا أحسبنى قادرا على سداده بإحاطتهم لى بطوق من المشاعر الرقيقة الصادقة فور علمهم بمحنتى الصحية. ولقد ترددت طويلا فى أن أكتب السطور التالية باعتبارها تتناول مسألة شخصية لكننى حسمت ترددى لأن فيها أبعادا عامة.

•••

اكتشفت إصابتى بفيروس C فى عام 2000 عندما أظهرت نتائج تحاليل طبية شاملة زيادة ملحوظة فى أنزيمات الكبد، وبمتابعة التحليل تأكدت إصابتى بهذا الفيروس اللعين. رفضت العلاج بالإنترفيرون بحسم لمعرفتى بقسوة تداعياته الجانبية، ولما قاله لى أطباء مرموقون من أن نسبة الشفاء التى يحققها لا تتجاوز 60%. ومن ثم بدأت علاجا تحفظيا مع طبيب قدير كان دائم الطمأنة لى بأن التليف الذى أصاب كبدى محدود وتحت السيطرة إلى أن وقع ما وقع لى فى تونس فى نهاية ديسمبر 2008 حين سقطت مغشيا علىّ فى الطريق بعد جولة تسوق، ولولا أن نفرا من المارة قد سارعوا باستدعاء الإسعاف، ولولا أننى قد هاتفت زميل العمل العزيز محمد سلطان وأخبرته بمكانى لما سارت الأمور على النحو الذى صارت إليه. أفقت بعد دقائق لأجد حولى عددا كبيرا من الأشقاء التونسيين يحاول كل منهم أن يساعدنى، وبمجرد إفاقتى سمعت من يقول «وصلت سيارة الإسعاف». وقفت على قدمى وقلت للطبيب بداخلها «شكرا لقد أصبحت فى حالة جيدة»، رد بأدب وحسم «لابد أن أكشف عليك». صعدت إلى السيارة وسمعت صوت محمد سلطان فاجتاحنى شعور من الراحة قبل أن يعاودنى الإغماء، وعندما أفقت للمرة الثانية وجدت نفسى محاطا بعدد من الأطباء والممرضات تحدث كبيرهم الأستاذ الدكتور فوزى الخضيرى بلهجة حانية «د. يوسف اطمئن لقد حدث لك نزيف فى دوالى المرىء وسنجرى لك عملية ربط تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه». ويبدو أننى أظهرت بعدها اضطرابا شديدا فى الوعى جعل زملائى فى العمل يستدعون الراحلة الكريمة زوجتى ومعها ابنى الحبيب، وكذلك الزميلة العزيزة الدكتورة نيفين مسعد نائبتى فى المعهد كى تحل محلى فى تمثيلى أمام المؤتمر الوزارى للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. حضروا جميعا لزيارتى فور وصولهم وسبب ظهورهم لى مزيدا من الاضطراب، فهل بلغ بى الاضطراب أن أتخيل أوهاما. رأيت شفاههم تتحرك دون أن أسمع شيئا أو أقدر على النطق بشىء. قضيت الليل كله مستيقظا وعندما حل الصباح كنت قد تذكرتهم جميعا. تبادلت حوارا قصيرا معهم. سألنى د. الخضيرى لاحقا «د. يوسف تذكرتنى؟»، وكان مسرورا للغاية عندما ناديته باسمه، وبشرنى بأننى سوف أغادر العناية المركزة إلى غرفة عادية بعد ثلاثة أيام أقضى فيها يومين أعود بعدهما إلى القاهرة. وحدث ما قاله بدقة بالغة، وما زالت أذكر ذلك الطبيب الخلوق، وقد أعد جميع الوثائق اللازمة لاستئناف علاجى فى القاهرة بما فيها تقرير دقيق ومخيف عن تطور حالتى منذ البداية. وفيما بعد تطورت علاقتى به إلى صداقة حميمة إذ كنت أحرص على زيارته واستشارته كلما زرت تونس ناهيك عن تبادل المكالمات الهاتفية فى المناسبات.

•••

عدت من تونس إلى المستشفى الذى تصادف أن الطبيب النابه الخلوق الدكتور أحمد الراعى يعمل به استشاريا لأمراض الكبد والجهاز الهضمى، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تحت رعايته. لم يخطئ د. الراعى مرة واحدة طيلة خمس سنوات، وعندما تدهورت حالتى كان أشبه برئيس أركان يدير معركة معقدة وغير متكافئة، لكنه يحقق النصر فى النهاية. بعد سنة بدأ يلمح ثم يلح علىّ أن الحل الجذرى هو زرع كبد سليم. لم أقبل الفكرة بداية لخطورة العملية وتكلفتها الباهظة، لكنى رضخت عندما ازداد تدهور حالتى وأصبحت فترة غيابى عن المستشفيات لا تدوم أكثر من أسبوعين أو ثلاثة. رشح لى د. الراعى مستشفى «بوجون» فى فرنسا باعتبارها أفضل مستشفى لزراعة الكبد فى هذا البلد وذى مكانة عالمية مرموقة. رتب الإجراءات الأولية وتقرر سفرى لإجراء فحص أولى فى مارس ــ أبريل من العام الماضى، وبعدها تقررت صلاحيتى للعملية ووضعى على قائمة الانتظار، وفى يوليو أُبلغت بوجوب العودة فى نهاية أكتوبر وإن الموعد التقريبى للعملية هو منتصف نوفمبر ففعلت بصحبة ابنى الحبيب محمد الذى أنهى مهمته الدبلوماسية فى بكين بعد أقل من عام ليكون إلى جوارى حتى تنتهى المحنة.

•••

فى الحادى عشر من نوفمبر قرأت جزءا كاملا من القرآن الكريم. كنت قد أخذت معى مصحفا من القاهرة، وفى ذلك اليوم شعرت بالخجل لأننى لم أفتحه، وفى فجر اليوم التالى استيقظت من تلقاء نفسى وصليت الفجر حاضرا فى السادسة صباحا وقبل أن أغمض جفنى سمعت صوت الهاتف فى حجرة محمد وتوقعت ما سيأتى، وعندما سمعته يتحدث بالفرنسية صار توقعى يقينا. فتح باب غرفته فرفعت رأسى، وقلت له آن الأوان. فهز رأسه بالإيجاب. وبدأنا نستعد بهمة بالغة فى الطريق إلى المستشفى هاتفت د.نيفين مسعد التى كانت بالصدفة فى باريس تمثل المجلس القومى لحقوق الإنسان فى فعالية للمنظمة الفرانكفونية فضلا على انضمامها لاحقا لوفد المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إلى المؤتمر الوزارى لليونسكو. قلت لها مازحا: «سوف يتأخر غداء اليوم قليلا»، وكانت قد تفضلت بدعوتى ومحمد لتناول الغداء. تساءلت عن السبب فذكرته، لم تصدق فى البدء، لكن الأمر لم يكن موضع مزاح. سألتها أن تهاتف الصديق العزيز د. ممدوح حمزة ود. خير الدين حسيب مدير مركز دراسات الوحدة العربية اللذين أصرا أن يكونا إلى جوارى حين إجراء العملية. وتكفل محمد بإبلاغ زوجته وأخته.

تمت إجراءات الاستعداد للعملية فى العاشرة والنصف صباحا، وعندما أُدخلت إلى غرفة العمليات لم يكن إلى جوارى سوى ابنى الحبيب محمد ود.نيفين مسعد. تعودت أن أكون مبتسما متفائلا فى مثل هذه الظروف، لكن «محمد» أخذ ينحنى ليقبل يدى عدة مرات وهو يردد فى خشوع: «لا إله إلا الله»، وفى المرة الثالثة كدت أفقد تماسكى، وبدأت الدموع تتجمع فى عينى فقلت له حانيا حاسما: «وبعدين بأاااه» فوعدنى أن يكف وفعل.

ولنا عودة يظهر فيها الشق الموضوعى من المحنة إن شاء الله.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية