مكارثية جديدة فى بَرْ مصر؟ - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 28 مايو 2024 3:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مكارثية جديدة فى بَرْ مصر؟

نشر فى : الخميس 14 يناير 2010 - 9:53 ص | آخر تحديث : الخميس 14 يناير 2010 - 9:53 ص

 يزداد الاحتقان السياسى فى المجتمع المصرى يوما بعد يوم بين أنصار نظام الحكم ومعارضيه فى معظم قضايا الوطن. ليس الاحتقان السياسى بجديد على مصر بطبيعة الحال كغيرها من البلدان، لكن الجديد فيه هو شموله لجميع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية تقريبا من الاستقطاب الناجم عن من ملف الخلافة السياسية إلى تدهور العلاقة بين مسلمى الوطن وأقباطه، إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية المصرية على إيقاع الأزمة الاقتصادية العالمية، إلى الجدل حول توجهات سياسة مصر تجاه محيطها الخارجى، وما هذه سوى مجرد أمثلة مختارة. فى خبرات ماضية كانت الحياة السياسية المصرية تشهد احتقانا حول قضية أساسية كمبادرة الرئيس أنور السادات بزيارة إسرائيل وعقده معاهدة سلام معها فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، ولم يكن هذا يعنى غياب الخلاف الداخلى حول قضايا أخرى، ولكنه كان يشير إلى ارتفاع درجة الحرارة فى قضية بعينها على نحو لافت. أما الآن فإن الجسد السياسى المصرى برمته قد وصل إلى درجة الحرارة القصوى المسموح بها، وهو ما يحتاج علاجا فوريا وإلا ساءت العواقب. وسوف نجتزئ من مسببات الحمى التى أصابت هذا الجسد فى الوقت الراهن قضية الجدار أو «المنشآت الهندسية» التى تقيمها الحكومة المصرية على الحدود بين مصر وقطاع غزة، إذ هى نموذج حى للاستقطاب والاحتقان بين من يرون فى «المنشآت الهندسية» ضرورة لأمن مصر ومن يرون فى الجدار أو فى هذه المنشآت على العكس مصدرا لإلحاق الضرر البالغ بهذا الأمن.

إلى هذا الحد لا يبدو فى الأمر ما يقلق، لأن تنوع الآراء والخلاف بينها أمر مألوف بل ومطلوب، لكن ثمة نغمة واضحة وقوية بدأت تتسلل إلى وسائل الإعلام رسمية وغير رسمية ترفض أن يحدث خلاف أصلا فى الموضوع، وتعتبر المخالفين فى الرأى مقامرين بأمن مصر، ومستخفين به، أو غير ملتفتين إليه أصلا، وهم فى هذا يؤسسون مواقفهم على مقتضيات العمالة لقوى خارجية، ومن ثم فهم يقدمون مصالح هذه القوى على المصالح المصرية، لأن قضايا الأمن الوطنى لا يجوز الاختلاف حولها. لكن ما يحدث فى وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية شىء وما يحدث فى المواقع على شبكة المعلومات الدولية شىء آخر، حيث يسمع المرء عزفا نشازا صاخبا بالغ الفجاجة بل والبذاءة يهاجم أصحابه خصومهم من ذوى المواقف المخالفة وصولا إلى السباب بأقبح النعوت، وبوتيرة خارجة على المألوف إلى الحد الذى يعطى الانطباع بوجود «جوقة» منظمة مهمتها اصطياد الآراء المعارضة وتشويه أصحابها وإرهابهم، على أمل أن تتوارى هذه الآراء عن الساحة، وقد رفع بعض المشاركين فى هذه الحوارات الرايات البيضاء بالفعل، وأعلنوا انسحابهم من الجدل العام حول قضايا الوطن طالما أن الإسفاف قد بلغ ببعض أطرافه مبلغه.

ويلاحظ أن رموز نظام الحكم الرسمية لا تشارك فى هذه الحملة، فرئيس الجمهورية يحمل سجلا طويلا من عفة اللسان عند الاختلاف، ورئيس مجلس الشعب لم يشارك أبدا فى أى عملية تخوين لأى أحد، ووزير الخارجية يكتفى بشرح مواقف السياسة الرسمية المصرية وتأكيدها دون أن يمس أحدا من المصريين فى وطنيته، لكن الجامحين ينتمون إلى فئات أخرى، فبعضهم موجود فى وسائل إعلام رسمية وشبه رسمية، والبعض الآخر ــ وهى مسألة تستحق وقفة خاصة ليس هذا أوانها ــ موجود بشراسة فى فضائيات مصرية مملوكة لرأسمال غير مصرى، والبعض الثالث موجود فى مواقع سياسية غير تنفيذية، وإن حسبت على نظام الحكم بطبيعة الحال، وقد سبق لكل هذه الفئات أن لعبت أدوارا تخريبية فى أزمة العلاقات المصرية ــ الجزائرية منذ نحو شهرين، حين ترك الزمام لها كى تصول وتجول فى مجال تمزيق أواصر العلاقات بين مصر ومحيطها العربى.

والملاحظة الثانية أن «الفزاعة» التى تستخدمها هذه الحملة تتمثل فى أمن مصر الوطنى، ذلك أن أقوال الخصوم وأفعالهم وفقا لهذه الحملة تلحق بهذا الأمن أضرارا بالغة بل وتهدده من أساسه، ومن هنا ضرورة التفرقة فى الرد على هذه الحملة بين الثابت والمتغير فى مسألة الأمن الوطنى. من الثوابت التى أجمع عليها المصريون أن سيادة مصر لا يمكن أن تنتهك مهما كان المبرر، فلا اجتياح فلسطينيا للحدود مقبول أيا كانت الدوافع، ولا تحريض على نظام الحكم المصرى من الخارج يُسلّم به مهما كان مصدره أو كانت حجته، ولا عمل يتم فوق الأراضى المصرية بغير علم سلطاتها يكون موضع ترحيب حتى لو كانت نواياه طيبة، ولا تسامح مع اعتداء على أى مصرى ناهيك عن قتله بغض النظر عن الملابسات، وهكذا.. لكن المتغيرات فى مسألة الأمن الوطنى واردة أيضا، كأن يقول أحد إن ترتيبات معاهدة السلام مع إسرائيل فى المنطقة الحدودية غير كافية لتحقيق أمن مصر، أو إن إقامة جدار أو «منشآت هندسية» على الحدود مع قطاع غزة ليست هى الوسيلة المثلى للوفاء باحتياجات هذا الأمن، أو إن السياسة المصرية تجاه معبر رفح تحتاج مراجعة، وما إلى هذا.

لم يكن الأمن الوطنى بهذا المعنى ــ أى بمعنى السياسات التى تتبع لتحقيقه ــ موضع إجماع بالضرورة فى أى بلد من البلدان اللهم إلا فى حالات استثنائية، وإلا فأين الإجماع الوطنى فيما جرى فى الولايات المتحدة الأمريكية إبان حرب فيتنام فى ستينيات القرن الماضى ومطلع سبعينياته عندما انقسم المجتمع الأمريكى شطرين أحدهما يؤيد استمرار الحرب والثانى يرفع علامة استفهام ضخمة مؤداها: لماذا يُحارب أبناؤنا ويقتلون فى فيتنام؟ وأين كان هذا الإجماع أثناء ولاية بوش الابن وبصفة خاصة فى مدته الثانية فيما يتعلق بالحرب فى العراق؟ وأين هذا الإجماع الآن فى أوساط النخبة السياسية الأمريكية إن لم يكن الرأى العام الأمريكى كله إزاء الحرب فى أفغانستان؟ لسنا وحدنا إذن فى التنوع أو الخلاف فى الرأى وإن كانوا يديرون خلافاتهم فى هذا السياق بآليات ديمقراطية، وليس «بفزاعات» ترهب المخالفين للرأى الرسمى.

ولعل أخطر ما فى هذه الحملة أن صوت العقل يسحق بين شقى الرحى فى الاستقطاب الدائر، كما حدث فى سوابق كثيرة، فالتركيز فيها يتم على النماذج الصارخة للأصوات والقوى المعارضة التى تتجاوز أحيانا أو كثيرا فى الشكل والمضمون، بحيث تواجه هذه النماذج بالحسم الواجب الذى يجهز عليها، لكن نماذج المعارضة الموضوعية التى تقارع الحجة بالحجة تضيع، ولذلك فإنه كما انطلقت فى ذروة الأزمة مع الجزائر عقب مباراة الخرطوم مباشرة أصوات من فضائيات عليها علامات استفهام تطلب من المصريين أن يقتلوا أى جزائرى يصادفونه فى الطريق فإن أصواتا مماثلة ــ أو لعلها الأصوات نفسها ــ يتعالى صراخها الآن فى الحديث عن أصحاب الرؤى المختلفة فى سياسات الأمن الوطنى باعتبارهم «القتلة الحقيقيين» لابن مصر أحمد شعبان أحمد الذى استشهد مؤخرا على الحدود بين مصر وقطاع غزة برصاص قناص فلسطينى لابد وأن يحسب على حماس حتى وإن لم يكن منتميا إليها باعتبارها صاحبة السلطة الفعلية فى القطاع. ويستمر هؤلاء ــ كما حدث فى الأزمة الأخيرة مع الجزائر وما سبقها من أزمات مشابهة ــ فى المطالبة المباشرة أو غير المباشرة بالفكاك من روابط مصر العربية عامة، وإزاحة عبء القضية الفلسطينية خاصة من على كاهل مصر، وكأن توجهات السياسة الخارجية تمليها الانفعالات العاطفية ــ بفرض صدقها ــ وليست المصالح الوطنية.

لم يسمع من هؤلاء صوت يطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل حين استشهد ثلاثة جنود مصريين برصاص إسرائيلى على الحدود المصرية ــ الإسرائيلية فى نوفمبر 2004، ولم ينبسوا ببنت شفة عندما عاد الإسرائيليون فقتلوا اثنين من الجنود المصريين فى يونيو 2006، ولم يعرف عنهم أنهم ثاروا أو غضبوا أو أصابهم الغم حين رفضت محكمة الصلح فى تل أبيب فى العام المنصرم دعوى التعويض المرفوعة من أسر الشهداء المصريين الثلاثة فى حادث 2004، وهو رفض أفاد بعض التقارير بأنه ناجم عن تقاعس دوائر رسمية مصرية عديدة، علما بأن المحكمة نفسها كانت قد حكمت بتعويض مقداره 13مليون دولار لأسرة طفلة تونسية قتلت على الحدود الأردنية ــ الإسرائيلية.

فى أربعينيات القرن الماضى وبالتحديد فى 1946 ظهر فى الحياة السياسية الأمريكية جوزيف مكارثى العضو الجمهورى فى مجلس الشيوخ، وسرعان ما أصبح فى مطلع الخمسينيات من أشهر الشخصيات العامة فى مرحلة بلغت فيها شكوك المعادين للشيوعية ذروتها، وقد ذاعت شهرته نتيجة اتهاماته غير المستندة إلى دليل بخصوص وجود عدد كبير من الشيوعيين والجواسيس السوفيت داخل الحكومة الفيدرالية، وفي1950 على سبيل المثال زعم بأن250 من موظفى الخارجية الأمريكية من المتعاطفين مع الشيوعية، وأن 57 آخرين أعضاء فى الحزب الشيوعى، وعندما أصبح رئيسا للجنة الفرعية الدائمة للتحقيق فى 1953 كثف هجماته التى أدت إلى القضاء على الحياة المهنية لعديد من الأشخاص، وأصبح اسمه أساسا لمصطلح «المكارثية» تعبيرا عن الإرهاب الفكرى الموجه ضد المثقفين، وفى 1954 طالت اتهاماته المتعلقة بالتسامح مع أنشطة التجسس وزير الجيش الأمريكى نفسه، غير أن الوزير صرح فى هجوم مضاد بأن أعضاء فى لجنة مكارثى قد هددوا مسئولين فى الجيش الأمريكى بهدف الحصول على معاملة تفضيلية لأحد مستشارى اللجنة، ولقد تمت تبرئة مكارثى لاحقا من هذه التهمة، غير أن مجلس الشيوخ وجه له اللوم فى السنة نفسها بسبب الوسائل التى استخدمها فى تحقيقاته، وسرعان ما تقلص نفوذه فى المجلس خاصة والحياة السياسية الأمريكية بصفة عامة حتى مات بعدها بثلاث سنوات. ولا أحسب أننا بحاجة فى مصر إلى مكارثية جديدة، فلن يكون من شأن لهذه المكارثية إلا أن تضيف المزيد إلى كوارثنا فى وقت تشتد فيه الحاجة إلى كلمة سواء من أجل مستقبل نهفو إليه، بعيدا عن حالة الزلزلة الممتدة التى نعيشها فى حاضرنا، ونخشى من تداعياتها الكارثية على وطن لا نملك فى الدنيا سواه.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية