«3000 ليلة» ليس كألف ليلة وليلة - خالد فراج - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«3000 ليلة» ليس كألف ليلة وليلة

نشر فى : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:05 م | آخر تحديث : الأحد 14 فبراير 2016 - 10:05 م
تمكنت المخرجة مى مصرى فى فيلمها الروائى «3000 ليلة» من أن تستفز، أن تثير، أن تنعش وتوقظ، أن، وأن وأن، ذاكرة نسبة لا يُستخف بها من الشعب الفلسطينى (نحو 10 فى المائة)، هى نسبة مَن تعرّضوا لتجربة الاعتقال على أيدى سلطات الاحتلال الإسرائيلى، بشكل مباشر، من الرجال والنساء، خلال العقود الخمسة المنصرمة، أى منذ حرب 1967. وتتضاعف هذه النسبة لما تشمل من تعرّضوا لهذه التجربة بشكل غير مباشر، من أفراد العائلة كالأم والأب والابن والابنة والزوج والزوجة والحبيب والحبيبة. فهم، بدورهم، تلقّوا صدمة الاعتقال من لحظته الأولى مرورا بفترة التحقيق الصعبة ومن ثم المحاكم العسكرية التى كُلّفت بالنطق بالأحكام الجائرة تجاه المعتقلين، وليس انتهاء بالزيارات من سجن إلى آخر، إلى تحمّل عناء الإضرابات التى خاضها الأسرى والأسيرات فى السجون الإسرائيلية، وهى كثيرة. ففى الإضراب، تعيش عائلة الأسير وأصدقاؤه لحظات القلق والخوف على أبنائهم وأصدقائهم، وخصوصا عندما تُمعن إدارات سلطات السجون فى رفض مطالب الأسرى. ما يزيد من الخطر على حياتهم. وفى الوقت نفسه، هم من ينشط فى التضامن عبر استنفار المؤسسات والجمعيات الدولية والإعلام بكل أشكاله.

تشير معطيات المؤسسات الرسمية كهيئة شئون الأسرى ومؤسسات حقوقية أخرى، كمؤسسات «الحق» و«الضمير» و«نادى الأسير»، إلى تعرّض نحو ثمانمائة ألف فلسطينى للأسر منذ العام 1967، منهم من تجاوز عدد أعوام اعتقاله الثلاثين عاما، ومنهم المرضى بأمراض مزمنة وخطيرة، ومنهم الأطفال، ومنهم كبار السن، ومنهم بطبيعة الحال النساء، ومنهم النواب والبرلمانيون. إن هذا التنوّع فى الفئات والأعمار والانتماءات والجنس والفئات العمرية إنما يعكس حالة التنوع فى المجتمع الفلسطينى من جهة، وحالة الإجماع الوطنى الكبير على مقاومة الاحتلال والخلاص منه من جهة أخرى.

***
يسلط الفيلم الروائى «3000 ليلة» فى 103 دقائق الضوء على تجربة الحركة الفلسطينية الأسيرة بشكل عام، وعلى تجربة الحركة النسوية الأسيرة بشكل خاص، فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى. إذ تُعدّ هذه المرحلة واحدة من أصعب مراحل الحركة الفلسطينية الأسيرة، بالإضافة إلى أنها مرحلة مهمة من مراحل تطور الحركة ونضوجها فى مواجهة السياسات الإسرائيلية التى تنفذها ما تسمى بـ«مصلحة السجون» التى تهدف بدورها إلى تحطيم المبنى النفسى والاجتماعى والثقافى والوطنى للأسرى الفلسطينيين ضمن سياسة ممنهجة تسعى لتحويل قضيتهم من قضية واحدة موحدة سببها الاحتلال إلى قضايا ومطالب فردية. وقد ظهر ذلك جليا فى الفيلم، لمّا جرت مقايضة استمرار الحمل للأم الأسيرة أو إجهاضها تبعا لما تؤمنه من معلومات وتعاون، من ثم مقايضة بقاء الطفل مع أمه بكسر الإضراب عن الطعام. ما يقوّض إضراب الأخريات، بهدف كسر وحدة موقف الأسيرات اللواتى قررن عدم الرضوخ ومواجهة إدارة السجن. وتلك الأخيرة دائما ما تحاول النيل منهن بشكل فردى، فكان الردّ بشكل جماعى عبر الإضراب عن الطعام.

لا يعالج هذا المقال ولا بأى شكل من الأشكال المضمون الفنى للفيلم، ولا يشتمل على نقد سينمائى، فهذا ليس عملى. فأنا أريد فقط أن أضع الفيلم فى سياق مساهمته فى توثيق تجارب الحركة الأسيرة التى لم تأخذ حقها بصورة كافية، على الرغم من غنى التجربة. كما أود الإشارة لمساهمته فى إعادة وضع ملف الأسرى والأسيرات على جدول الأعمال الوطنى، بالإضافة إلى مساهمته فى حثّ الأسرى على البوح بتجاربهم وقصصهم وربما أسرارهم. فلكل واحد منهم تفاصيل قصته الخاصة التى من الممكن إنجاز عمل حولها: قصة، رواية، لوحة، مسرحية، فيلم توثيقى، فيلم روائى، سيرة ذاتية.

شاهدت العرض الافتتاحى لـ«3000 ليلة» فى سينما برج فلسطين فى رام الله، فى ليلة من لياليها الباردة جدا، 8/1/2016، وكنت سأتفهم خلوّ القاعة من الحضور بسبب الطقس العاصف والبارد. لكن برودة الطقس لم تمنع الجمهور من حضور الافتتاح، وجلّهم من أصحاب تجربة الاعتقال من الرجال والنساء، وكان لافتا مدى الإصغاء والانشداد نحو شاشة العرض. وكانت هناك بعض الأصوات التى تخرج أحيانا من الحضور لتوافق أو تؤكد مشهدا ما، وأصوات أخرى تضحك تذكرا، ألما، حنينا.

***
يدور الحديث هنا عن تجربة الاعتقال التى طالت نحو 800,000 من إجمالى السكان البالغ عددهم 13 مليون فى الداخل والخارج، علما أن من تعرّض للتجربة جلهم من الداخل، أى من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بالإضافة إلى مناطق الجليل والمثلث. أما الأسرى من فلسطينيى الخارج أو من العرب فقد أُطلق عليهم اسم «أسرى الدوريات». وهم الذين كانوا يُعتقلون بعد أو فى أثناء تنفيذهم عمليات فدائية على حدود فلسطين فى أعوام السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى. عددهم قليلٌ نسبة إلى عدد فلسطينيى الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. إذا، فإن الحديث يدور عن صناعة كبيرة تنتجها دولة الاحتلال، اسمها السجون والمعتقلات وأقبية التحقيق والمحاكم العسكرية، وكلّ ما يتبع هذه الصناعة من تفاصيل وعناصر كثيرة. فتخيلوا أيها الناس توزيع السجون والمعتقلات على خريطة فلسطين التاريخية ضمن معادلة الأعداد المطروحة. لم تعد هذه الخريطة طبيعية لمدن وقرى وسواحل وجبال وصحار وبحار، فقد باتت هذه الخريطة تملؤها السجون بأسماء ومسمّيات غريبة وغير منسجمة مع أسمائها الأصلية. فمن «إيشل» و«رامون» و«نفحة» جنوبا، إلى «نتسيان» و«نفى ترستا» و«سطا» و«عوفر» فى رام الله، و«هداريم» على الساحل، و«جلبوع» فى منطقة الغور. ومن هذه السجون ما هو مخصص للنساء وآخر للأطفال وثالت للرجال، ومنها ما هو مخصص لمعتقلين من قطاع غزة ولمعتقلين من حملة هوية الضفة الغربية ولمعتقلين من حملة الهويات المقدسية والجولان ولمعتقلين حملة الهويات الإسرائيلية من فلسطينيى الجليل والمثلث.

وبينما يقرر الكثير من الدول الديمقراطية إغلاق السجون وتقليص عددها بسبب تراجع الأعداد فيها، كحال الحكومة الهولندية أخيرا، تفتح الحكومة الإسرائيلية المزيد من السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق، وتوظّف مئات الخبراء فى مجال قهر البشر وسلبهم حريتهم.

هذا النص هو تحيّة لمى مصرى التى طرقت الباب بقوة فأيقظت الذاكرة، تحية لمى مصرى التى سمعت قصة أم وضعت مولودها فى السجن فقررت أن تسمع أكثر وأكثر، فأنصتت لعشرات القصص المدفونة من نساء قضَيْن أجمل سنوات أعمارهن فى هذه الغرف المظلمة والقاسية التى تفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة الطبيعية. مع ذلك، صمّمن على المواجهة، وحوّلن أدوات قهرهن إلى أماكن للاستفادة والتطور.

***
لابد من النظر لتجربة مى مصرى فى «3000 ليلة» على أنها مقدمة واستمرار لمشروع وطنى كبير لتوثيق تجارب الأسيرات والأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية ومراحل تطور هذه التجربة بشكل جماعى، عن طريق رصدها وتوثيقها كتجربة مسّت الكلّ الفلسطينى، وتوثيق التجارب الفردية، وكتابتها لكلّ هؤلاء ممن تجرعوا التجربة، وخصوصا فى بداياتها، أى عندما كانت السجون بمثابة مقابر جماعية وأماكن للقتل. لا أنفى هنا وجود جهودٍ كبيرة وتجارب مثيرة لتوثيق التجربة، سواء باللوحة أو المسرحية أوالفيلم التوثيقى أو الروائى أو الرواية أو حتى عبر إقامة معارض لمقتنيات الأسرى ولأعمالهم الفنية التى أنجزوها بأبسط الأدوات داخل السجون. بهذا، نكون أوفياء لهم، ونعبّر عن تقديرنا للثمن الكبير الذى قدّموه على حسابهم وحساب عوائلهم.

كاتب فلسطينى
خالد فراج كاتب فلسطينى
التعليقات