كيف تتحكم التكنولوجيا في إدارة «الإرهاق» بقطاع النقل؟ - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 5:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كيف تتحكم التكنولوجيا في إدارة «الإرهاق» بقطاع النقل؟

نشر فى : الثلاثاء 14 مارس 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 مارس 2023 - 8:55 م
نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتبة كارين ليفى تناولت فيه تأثير الرقابة الرقمية على عمل سائقى الشاحنات بالولايات المتحدة الأمريكية بدعوى منعهم من القيادة لفترات طويلة مما يؤثر سلبا على الصحة الجسدية، على النقيض يرى سائقو الشاحنات أن هذا يعد انتهاكا لاستقلاليتهم المهنية والمرونة التى تتسم بها تلك المهنة.. نعرض من المقال ما يلى.
تطرح الكاتبة فكرة أساسية تدور حول مراقبة سلوكيات سائقى الشاحنات بالطرق السريعة، وكيفية الاعتماد على الخيار التكنولوجى وأدوات الأنظمة الرقمية، كأجهزة التسجيل الإلكترونية فى جمع البيانات، والتحكم فى سلوك سائقى الشاحنات، آخذة فى الاعتبار أن هذه الفكرة تدور حول جدلية كبرى تتعلق بدور أنظمة جمع البيانات فى الرقابة الاجتماعية.
• • •
أدت موجة التحرر فى سبعينيات القرن العشرين بالولايات المتحدة إلى الركود الاقتصادى، بكل ما استتبع ذلك من انخفاض أجور سائقى الشاحنات بنسبة 44%، وإجبارهم على القيادة لساعات أطول وبأموال أقل، وهو ما انعكس على الصحة البدنية والعقلية للسائقين، فضلا عن الضغوط التى يتعرضون لها على الطرق، وظروف العمل غير الآمنة، والعزلة وعدم الاستقرار الأسرى الناجم عن حياة التنقل بالشاحنات.
ففى عام 2019، كان قطاع النقل بالشاحنات سادس أعلى معدل وفيات مهنية من بين جميع الوظائف الأمريكية، فضلا عن أن معدل حدوث الإصابات الخطرة بين سائقى الشاحنات هو الأعلى فى أى مهنة أمريكية. ونتيجة التعب الجسدى والذهنى، فإن سائقى الشاحنات يواجهون عواقب صحية وخيمة بدءا من الإرهاق وصولا إلى الإدمان.
وبدلا من قيام الحكومة بإعادة هيكلة أجور سائقى الشاحنات لضمان التزامهم بساعات العمل القانونية للقيادة، فإنها لجأت إلى المراقبة الإلكترونية كبديل عن السجلات الورقية التى يسهل التلاعب بها لتحقيق هذا الهدف. لذا، تعتبر أجهزة المراقبة بمثابة العمود الفقرى التكنولوجى للحكومة ولشركات النقل، بكل ما توفره من معلومات حول أداء وسلوك سائقى الشاحنات. ففى ديسمبر2017، فرضت الحكومة الفدرالية على سائقى الشاحنات ضرورة شراء وتثبيت واستخدام أجهزة التسجيل الإلكترونية «ELD»؛ للتصدى لأحد أخطر المشكلات والأكثر انتشارا فى قطاع النقل بالشاحنات، وهى «التعب»؛ حيث إن سائقى الشاحنات يعانون من إرهاق العمل وقلة النوم، بكل ما يحمله ذلك من عواقب مميتة، على السائقين أنفسهم وكذا على باقى المواطنين بشكل عام، وذلك على الرغم من أن سائقى الشاحنات يخضعون منذ ثلاثينيات القرن الماضى للوائح «ساعات الخدمة» الفيدرالية التى تحدد ساعات العمل التى يمكنهم دوامها.
تعتبر أجهزة التسجيل الإلكترونية أحد الأنظمة الرقمية التى تلتقط بيانات حول أنشطة سائقى الشاحنات، خاصة فيما يتعلق بعدد ساعات العمل؛ وذلك بهدف منعهم من القيادة لفترة أطول مما تسمح به اللوائح الفيدرالية، وضمانا لالتزامهم بأوقات العمل الرسمية، ويمكن اعتبارها أحد أنظمة «الإنفاذ الرقمى»؛ حيث يتم استخدام التكنولوجيا لفرض القواعد، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية على منظومة القيم السائدة بين سائقى الشاحنات؛ خاصة من حيث الاستقلالية المهنية، والمرونة التى يتمتعون بها للقيام بأعمالهم بالطرق التى تناسبهم، فضلا عن علاقتهم بسلطات إنفاذ القانون.
• • •
تشير الكاتبة إلى أن «القواعد ليست دائما قواعد»، لأنها يجب أن تتشكل من خلال الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، علما بأنه قد يتم انتهاك القاعدة فى بعض الحالات؛ لأن الالتزام الحرفى بها غير عادل وغير منطقى، ويُدلل على ذلك بأن مراقبة مخالفات السرعة الطفيفة مجرد «ذريعة» للشرطة لإيقاف السائقين وخاصة السود للتحقيق معهم.
إن كسر القواعد الروتينية يجعل المجتمع يعمل بكفاءة، لأن الالتزام الحرفى بالقواعد يؤدى إلى سيطرة البيروقراطية وإبطاء الوظائف التنظيمية، خاصة وأن الموظفين يتبعون القواعد بحذافيرها للحد الذى يصعب معه تأديبهم على التأخر فى إنجاز المهام الموكلة إليهم. لتجنب ذلك، فإن الكثير من المنظمات تتبنى قواعد وهياكل رسمية معينة لتحقيق الشرعية القانونية استجابة للضغوط من أجل التوافق المؤسسى، مع فصل هذه القواعد عن الممارسات التى تسمح لها بالعمل بكفاءة.
إن تطبيق القواعد بصرامة ليس جيدا أو سيئا تماما، فالعالم معقد للغاية، وإدارة العلاقات الاجتماعية تتوقف على «الفجوة» بين القواعد الموجودة فى الكتب والممارسات على الأرض. مع العلم بأن إدخال التكنولوجيا فى هذا المضمار، والاعتماد عليها فيما يعرف بـ«الإنفاذ الرقمى» قد يؤدى إلى تأثيرات سلبية فى النظام الاجتماعى القائم لسياق معين بطرق غير متوقعة.
• • •
مستقبل العمل ليس نمطا منفصلا عن التنظيم الاجتماعى، فلا تختلف ممارسات إدارة الغد عن ممارسات الإدارة فى الماضى، لأنهما يقومان على نفس الأسس والغايات: (تحفيز الكفاءة، تقليل الخسائر، تحسين العمليات، تحسين الإنتاجية). كما أن إحدى الاستراتيجيات الأكثر شيوعا لتحقيق هذه الأهداف، تتمثل فى زيادة الإشراف على أنشطة العمال. إلا أن سيطرة التكنولوجيا واستخدام أنظمة تتبع المواقع والشبكات اللاسلكية غير ذلك تماما.
وقد أدى تنامى اللجوء إلى ترتيبات العمل من المنزل خلال جائحة «كورونا» إلى تزايد استخدام برامج التتبع، وأصبحت وسائل جمع البيانات الحيوية أكثر شيوعا بدءا من التعرف إلى بصمات الأصابع ومسح الشبكية وصولا إلى جمع البيانات السلوكية حول معدلات انتباه العمال و«التعب». بالتالى، تلاشت الفواصل بين حدود العمل وغيرها من مجالات الحياة؛ مما أدى إلى خلق أنواع جديدة من التشابكات؛ حيث تسهل أنظمة مراقبة بيئة العمل من المنزل جمع المعلومات حول الأسرة والأصدقاء والمواقف المعيشية، بكل ما يرتبط بذلك من مخاوف تتعلق بخصوصية وأمن البيانات.
• • •
أثرت تقنيات المراقبة الرقمية ــ والتى منها أجهزة التسجيل الإلكترونية ــ فى طبيعة عمل سائقى الشاحنات، من ناحيتى الحرية والاستقلالية فى أداء عملهم اليومى، حيث تتضمن أنظمة المراقبة فى الشاحنات جمع أنواع جديدة من البيانات الدقيقة حول سلوكيات سائقى الشاحنات وأجسادهم وأنماط الفرملة وحتى الموجات الدماغية. وتدعم هذه البيانات أشكالا جديدة من التحليل؛ حيث يمكن للشركات مقارنة أداء سائقى الشاحنات مع بعضهم البعض والتنبؤ بسلوكهم المستقبلى تجاه مختلف المواقف التى يتعرضون لها، بما يمنح الشركات رؤية أكبر وتحكما أوسع فى عمل سائقى الشاحنات. ويتعارض ذلك مع رؤية السائقين للشاحنات باعتبارها مكان عمل خال من البيروقراطية، وتتمتع بدرجة عالية من الخصوصية والسرية للحد الذى يجعلهم يمارسون فيها كافة أوجه الأنشطة الحياتية، حيث إن خصوصيتهم مقدسة.
• • •
تعمل أجهزة التسجيل الإلكترونية ككائن قانونى واقتصادى وثقافى فى آنٍ واحد، ففيما يتعلق بالحكومة؛ تعتبر ابتكارا قانونيا لفرض الامتثال للقواعد، واستراتيجية لمعالجة مشكلات السلامة فى قطاع النقل بالشاحنات. وفيما يخص شركات الشحن؛ فهى أداة اقتصادية لمواءمة سلوكيات العمال مع الأهداف التنظيمية مثل: زيادة كفاءة استهلاك الوقود، وتقليل فرص القيادة خارج المسار. لذا، فإن الشركات تستخدم أجهزة المراقبة الإلكترونية، ليس فقط للامتثال لقواعد ضبط الوقت، وإنما لمراقبة سلوك السائقين بهدف تحقيق أهداف الشركة، وبالتالى فهى أداة قانونية ذات ربحية تجارية.
بالنسبة لسائقى الشاحنات، تعتبر أجهزة التسجيل الإلكترونية كائنا ثقافيا يتحدى قيمة «معرفتهم بالطرق» وهويتهم المهنية، فضلا عن قيمة إنجاز العمل بشكل مرن ومستقل، وترى الكاتبة أنه من غير المُحتمل أن تقوم التكنولوجيا الرقمية بدور ناجح فى فرض القواعد على سائقى الشاحنات، نظرا للتاريخ الاجتماعى والاقتصادى لقطاع النقل بالشاحنات.
ختاما، تطرح الكاتبة تساؤلين محوريين حول مستقبل مهنة سائقى الشاحنات فى ظل المراقبة الرقمية وهما: كيف سيبدو قطاع النقل بالشاحنات فى المستقبل؟ وهل ستتولى «الروبوتات» هذه الوظائف؟، ترى الكاتبة أنه من غير المُرجح أن تصبح المركبات الآلية بديلا عن سائقى الشاحنات، لأسباب قانونية واجتماعية وثقافية، والأرجح أن يتم دمج عمل البشر والآلات، فى عملية تهجين للإنسان والآلة معا. وتدلل على ذلك، بأن مسألة استخدام التكنولوجيا لفرض القواعد، ليست الحل، لأن المشكلات التى تهدف التكنولوجيا إلى حلها ليست فى جوهرها مشكلات تقنية، وإنما مشكلات اجتماعية واقتصادية وثقافية.

النص الأصي

التعليقات