رُباعية الجَد - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 11:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رُباعية الجَد

نشر فى : الخميس 14 يوليه 2011 - 8:35 ص | آخر تحديث : الخميس 14 يوليه 2011 - 8:35 ص
«وزارة بجد. تطهير بجد. محاكمة بجد»
كانت هذه الثلاثية التليغرافية هى أوجز وأفصح ما وجدته بين لافتات ميدان التحرير فى جمعة «الثورة أولا».

وهى ثلاثية لا يختلف معها أى عقل متابع وأى وضمير ناقد لما نحن فيه، فالمأزق الحرج الذى وصلنا إليه هو نتيجة لافتقاد الجد فى ثلاثية الوزارة والتطهير والمحاكمة، وإن كان جد المُحاكمة مختلفا قليلا، فالعدالة فيما يخص محاكمة رأس وعصابة النظام الساقط تتطلب أولوية المحاسبة على جُرمهم الأكبر وهو إفساد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل الأخلاقية فى مصر، والذى نعانى من عواقبه الآن وسنظل نعانيه لفترة طويلة.

الجدية هى عين المطلوب، وفى مسألة التطهير أعترف أننى لم أكن أراها هائلة الخطورة على النحو الذى تبدَّت عليه من خلال حالة «ضبط وتلبس» وصلتنى وقائعها أخيرا، فقد كنت أتصور أن المنتمين إلى النظام السابق بعيدا عن الصفوف الأولى، يمكن أن يتحسن أداؤهم تحت ضغط الخوف من محاسبة محتملة بعد سقوط النظام الذى كانوا ينافقونه أو يستثمرونه ويحميهم، وربما أن بقايا الخير المطوية عليها كل نفس بشرية يمكن أن تنجلى لدى بعض هؤلاء فى مناخ جديد أنظف. لكن يبدو أن هذه كانت نظرة مثالية أكثر مما ينبغى، وهو ما سيوضحه المثال الذى سأورده، والذى يؤكد أن عملية التطهير ليست انتقاما من فلول وذيول النظام السابق، بل هى ضرورة لإيقاف تخريب خفى يفضحه هذا المثال:
منذ خمس سنوات تم التعاقد بين كلية طب بشرى بإحدى الجامعات المصرية، ومؤسسة ماليزية مثلتها سفارة دولة ماليزيا فى القاهرة وينص التعاقد على ايفاد الطلاب الماليزيين للدراسة بهذه الكلية، نظير مقابل مادى قدره 8000 (ثمانية آلاف) دولار للعام الواحد ولمدة ست سنوات للطالب. (أى 48000 دولار للطالب طوال سنوات الدراسة).

وبلغ إجمالى الطلبة الوافدين لهذه لكلية فى سياق هذا المشروع 450 (اربعمائة وخمسين) طالبا، بإجمالى دخل قدره 3600000 (ثلاثة ملايين وستمائة ألف دولار) يتم الصرف منها على العملية التعليمية والخدمية بكلية الطب والجامعة المعنية كتمويل ذاتى يدعم المخصص للكلية من الموازنة العامة للدولة. الا أنه وبعد الثورة التى شهدتها مصر فوجئ المنسق العام لهذا المشروع، وهو أستاذ فاضل بكلية الطب التى جرى معها التعاقد، بمكالمة تليفونية ورسالة على بريده الالكترونى من المسئولين عن المشروع فى الجانب الماليزى، يستغربون ويستنكرون ما قام به عميد كلية الطب ذاتها عندما خاطب مدير الجهة الماليزية المتعاقدة والممولة للمشروع، قائلا بأنه سوف تكون هناك تغييرات فى القيادات الجامعية المصرية، وكذلك تغييرات جذرية فى المناهج والنظام الدراسى، وأن الأمور بمصر لن تكون مستقرة فى الفترة القادمة، ولهذا ينصحهم هذا العميد بعدم التعاقد مع الجامعات المصرية فى العام المقبل! كما طلب هذا العميد من المدير الماليزى الحضور إلى مصر «على وجه السرعة» لمقابلته «حتى يوجه اليه بعض النصائح»؟!!.

طبعا يمكننا أن نتصور بسهولة نوعية هذه «النصائح» التى سيوجهها عميد طب من هذا النوع للشركاء الماليزيين الذين حرضهم على عدم التعاقد مع الجامعات المصرية لتعليم أبنائهم فى رحابها. وقد كان هذا العميد «أمين لجنة التعليم» فى الحزب المنحل بمحافظته إضافة لكونه أحد المتربحين الكبار من مشاريع الاستثمار الخاص فى الطب!
الجريمة التى ارتكبها عميد الطب هذا، هى نموذج صارخ على مدى الفساد النفسى والأخلاقى فى موضع لا يُخرِّب فيه غير سيكوباتى أريب، يوجِّه طعنة غادرة لكليته وجامعته ووطنه وسمعة المهنة النبيلة التى ينتمى إليها، لمجرد استشعاره بقرب تركه لمنصبه الذى لم يشغله إلا بسبب انتمائه لحزب لا أعتقد أن هناك أمينا وسويا وغنى النفس كان يقبل أن ينتمى إليه، فقد كان ذلك الحزب ساحة للتدليس الواضح والكذب والنفاق وبيع أمة لصالح مغانم شخصية مادية أو معنوية أستغرب كثيرا أن يكون هناك أستاذ طب فى حاجة إليها، خاصة وأن لديه تجارته الطبية الرابحة!
ليست كلية الطب التى جرت فيها هذه الواقعة خطيرة الدلالة والأثر هى الوحيدة التى يدرس فيها طلبة ماليزيون، فهناك كليات طب مصرية أخرى تستقبل آلافا مثلهم، وهذا اعتراف مهم بعلو قامة مدرسة الطب المصرية من دولة صارت متقدمة وقاد نهضتها طبيب هو الدكتور مهاتير محمد، كما أن فى ذلك رد اعتبار للطب المصرى الذى نال منه النظام البائد كثيرا عندما فتح مغارة العلاج على نفقة الدولة فى الخارج للمحاسيب بمليارات كان يمكن لو تم ضخها فى فى فعاليات هذا الطب البحثية والعلاجية لكنا استغنينا إلى حد بعيد عن الحاجة لاستنزاف الملايين فى العلاج بالخارج، ووصلنا إلى نظام طبى يغنينا عن سؤال الكريم أو اللئيم، وهو ما وصلت إليه برؤية مبكرة دولة فقيرة مثل كوبا التى نمتلك تاريخا طبيا وطاقات وخبرات كانت تفوقها كثيرا ولايزال بعضها لدينا يواصل تفوقه العالمى برغم كل التعجيز والتشويه الذى تعرَّض له القطاع الطبى المصرى كما سائر القطاعات التى لم تنجُ من لمسة شيطان التخريب المُنزاح.

بالطبع لا أنكر شدة انفعالى بما يصيب العائلة الكريمة العريقة التى أشرُف بالانتماء إليها، عائلة الطب المصرى التى قفز على سطحها مثل هذا العميد الذى أهان شرفه الإنسانى والمهنى أولا بانتمائه إلى الحزب المنحل، وثانيا بتشرُّب قيم الفساد التى عكسها تصرفه المشين والمخرب والمضاد لناسه وأمته وكرامة مهنته التى هى مهنة للنبالة فى الدنيا كلها حتى أن البروتوكول الملكى البريطانى يقدم الأطباء والقضاة على الوزراء فى حفلات الاستقبال الملكية. وكانت إنجلترا تقبل دخول خريجى كليات الطب المصرية دون امتحانات فى منظومتها الطبية نظرا للثقة فى جودة إعدادهم العلمى والعملى.

وهو مما جارَ عليه زمان استبداد وفساد نظام مبارك الذى أفرز مثل ذلك العميد الذى تجاوز الانتقام من كليته إلى الانتقام من كليات الطب المصرية كلها بل من مصر التى اختار أن يشوه سمعتها فور إحساسه بأنه لن يبقى فى موقعه الذى يدرك أنه لا يستحقه والذى يؤكد تصرفه فى هذه الواقعة أنه بالقطع ليس جديرا به ولا نزيها فيه.

حالة كتلك يمكننا أن نستنتج منها أنه لا أمان لأى منتم للنظام الساقط حتى فى الصفوف الخلفية، ولا دور له فى إعادة بناء وترميم مصر الجديدة التى نتطلع إليها، بل إن احتمالات التخريب أرجح كما فى تلك الحالة. وما دام ذلك كذلك، فإن التطهير يغدو ضرورة إنقاذ قصوى، وهى ليست معضلة فى الجامعات وغير الجامعات، فيمكن أن يُدْعى كل من هم فى مراكز قيادية ممن انتموا للحزب أو النظام الساقط أن يقدموا استقالتهم حفاظا على ما بقى لديهم من كرامة، ومن لا يستقيل فلتتم إقالته مادام يتشبث بالبلادة ويرتضى لنفسه المَهانة، وليحل بمواقع المستقيلين أو المُقالين وكلاء أو نواب فى إدارة تلك الجامعات أو الكليات أو المؤسسات ممن لم ينتموا للحزب المنحل وعصابة الحكم الساقطة، وذلك لحين إجراء انتخابات ديمقراطية لشغل هذه المواقع بمنطق سوى جديد.

أما التطهير الأشمل والأهم، فلابد أن يُقصى كل منتسبى الحزب المنحل من صفوفه الأولى ونوابه البرلمانيين وقياداته فى المحافظات عن ساحة الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، ولو لدورة يتقرر بعدها ما يقرره من ينتخبهم الشعب، وهذا أيضا ليس انتقاما، بل هو إجراء وقائى ضد تخريب محتمل ولا يمكن استبعاده كما فى حالة عميد الطب المذكور.

«وزارة بجد. تطهير بجد. محاكمات بجد»، نعم لهذه المطالب الواضحة كلها، ونعم أيضا لـ«مظاهرات بجد»، وهى لا يمكن أن تكون كذلك إلا فى ثوب حضارى يحرص على كيان «الدولة» ومؤسساتها وهو يضغط لتغيير سلبيات الحكم، أى حكم. وهذا يعنى ألا تُقطع طرق، وألا تُغلق مؤسسات أو تُعطَّل مرافق، وألا يكون هناك عنف فى القول أو الفعل، فبرغم أية ملاحظات، نحن لا نواجه وزارة من وزارات مبارك ولا عصابة تخريب لمصر كان يرأسها المخلوع الذى يستحق ألف مرة أن يُحاكم بجد.

لا ينبغى أن يتماهى ضحايا تحرروا أخيرا، مع أى سلوك لظالمهم الذى سقط، خاصة سلوك التخريب من أى نوع مهما كانت النوايا حسنة، وأخطر أنواع التخريب هو إنهاك ما تبقى من عناصر تماسك «الدولة» فى لحظة سيولة غاية فى الحساسية، والخطر.
محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .