الصعلكة - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 1:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصعلكة

نشر فى : الأحد 15 مارس 2009 - 7:27 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 مارس 2009 - 4:22 م

 التصعلك فى اللغة هو الفقر، والصعلوك هو الذى لا مال له ولا اعتماد. وقد كانت فئة «الصعاليك» فى الجاهلية تضم من المنظور الاجتماعى: المخلوعين الذين حرمتهم قبائلهم من الانتساب إليها لكثرة جرائمهم، وأبناء الحبشيات الذين حرمهم آباؤهم من الانتساب إليهم بسبب عار ولادتهم وسواد لونهم، والفقراء الذين لا يجدون قوتا ولا مأوى.

أما على المستوى الأدبى فإن الصعاليك هم فقط هذه المجموعة من الفقراء الثائرين على الظلم فى العصر الجاهلى، والذين يلتزمون فيما بينهم أعراف وتقاليد معينة خلفها لنا شعرهم، حتى وإن كان بعضهم من المخلوعين مثل حاجز الأزدى وقيس بن الحدادية، أو من أبناء الحبشيات مثل السليك بن السلكة وتأبط شرا والشنفرى الأزدى.

وقد كان زعيم الصعاليك وشعارهم الأكبر بلا منازع هو عروة بن الورد، الذى يقول عنه صاحب لسان العرب: إنه كان يسمى عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء فى حظيرة فيرزقهم مما يغنمه.

وعروة ليس من المخلوعين ولا من أبناء الحبشيات لكنه لم يكن عريق النسب، حيث يقول:

ما بى من عارٍ إخال علمتـــــــه سوى أن أخوالى، إذا نسبوا، نهدُ
إذا ما أردت المجد، قصَّر مجدهم فأعيا علىَّ أن يقاربنى المجــدُ

لكن أخلاق عروة لم تكن إلا أخلاق سيد كريم، أو قل هى النموذج الأعلى للأخلاق كما تم تصويره فى شعر هذا العصر، بالإضافة إلى الصفات التى يجب توافرها فى القائد الذى يقدر مسئوليته نحو أتباعه:

فلا أترك الإخوان ما عشت للردى كما أنه لا يترك الماء شاربـــــه
ولا يستضام الدهر جارى، ولا أُرَى كمن بات تسرى للصديق عقاربه
وإن جـــــارتى ألوت رياحٌ ببيتها تغافلت حتى يستر البيتَ جانبه

كما أن معيار استمرار الصداقة بينه وبين إخوانه من الصعاليك ــ وبعضهم من المجرمين الأشرارــ لم يكن إلا معيارا أخلاقيا خالصا يتعلق بالالتزام بمبادئ الجماعة:

وخلٍ كنت عين الرشد منه إذا نظرت، ومستمعا سميعا
أطاف بغيه، فعدلت عنــه وقلت له: أرى أمرا فظيعــــا

فقد كان عروة مهذبا عزيز النفس، قَصَّر مَالُه عن مطاولة همته، لكن هذا لم يمنعه من تحقيق زعامة خالدة جدير بها، مصداقا لقوله:

ما بالثراء يسود كل مسود مُثْـرٍ، ولكن بالفعال يســودُ

وقد كانت الصعلكة لدى عروة ورفاقه ثورة على الفوارق الطبقية والعرقية تنبع من رغبة حقيقية فى تغيير الواقع وتحقيق العدل، ثورة رفض أصحابها التسول والهوان وآثروا الغزو وإعادة توزيع الغنائم على مستحقيها توزيعا عادلا.

وقد اتصف هؤلاء الصعاليك ــ على حد تعبير عبد المعين المويلحى فى تقديمه لديوان عروة ــ بحرية تبلغ حد الثورة، وشجاعة تبلغ حد التهور، وكرم يبلغ حد إيثار الجائع أخاه بلقمته.

ولعل كلمة « شركة» قد وردت للمرة الأولى فى الشعر العربى لدى عروة بن الورد، مشيرة إلى لون من التعاطف الإنسانى العميق، يكاد يكون إرهاصا مبكرا بفكرة الاشتراكية التى يجاهد الشاعر من أجل تحقيقها بوصفها الحق، حيث يقول:

إنى امرؤ عافى إنائى شركــــــةٌ وأنت امرؤ عافى إنائك واحــــــــــدُ
أتهزأ منى أن سمنت وأن تـــــرى بوجهى شحوب الحق والحق جاهـدُ
أُقَسَّم جسمى فى جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء، والماء بـــــــاردُ

وعلى الرغم من أن شعر عروة فى مجمله يكرس للمبادئ الأخلاقية السامية ويدعو لتحقيق العدالة الاجتماعية، فإنه لم يسلم أحيانا من التعرض للمصادرة نظرا لنزعته الثورية الزائدة. فقد روى معن بن عيسى أن عبدالله بن جعفر بن أبى طالب قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة التى يقول فيها:

دعينى للغنى أسعى فإنى رأيت الناس شرهم الفقيرُ
وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له حسب وخيرُ

فإن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.

أما على المستوى الفنى فإن شعر الصعاليك يقدم نموذجا فريدا للشعر الجاهلى الصادق الذى يصور مشاعر أصحابه ومواقفهم بعيدا عن القواعد الفنية المتعارف عليها فى كتابة مقدمات القصائد الجاهلية التى تبدأ بالبكاء على الأطلال وتتضمن وصف الرحلة والغزل ولوحات الصيد، بل وبعيدا عن الأغراض الموضوعية المألوفة من مديح وهجاء ورثاء وغيرها.

فهو شعر يبدأ مباشرة فى الحديث عن حياتهم ومشكلاتلهم ومبادئهم فى لغة سهلة، دون التفات مقصود إلى الزخرف البيانى والمحسنات البديعية، إنه شعر أقرب ما يكون إلى الواقعية، وكأن الأيديولوجية الاشتراكية تلازم التعبير الفنى الواقعى منذ العصر الجاهلى.

التعليقات