ــ1ــ
ذكرنا بالأمس مقولة الإمام عبدالرحمن مهدى التى قارن فيها بين ثلاثة من أكابر أئمتنا فى تأصيل «علوم الدعوة»، ونذكر هنا أولا تعريفا سريعا بهذه الأعلام الخفاقة فى دنيا العلم والدعوة والدين والثقافة.
ونبدأ بصاحب المقولة وهو عبدالرحمن بن مهدى الذى ولد سنة 135 هـ وتوفى سنة 198 هـ، وقد تتلمذ على «سفيان الثورى» وتعلم منه العلم. وبلغ عبدالرحمن مكانة رفيعة بين علماء الرجال وعلماء الجرح والتعديل.
أما سفيان الثورى فقد ولد عام 97 هـ وتوفى عام 161 هـ، وقد أجمع علماء عصره على منحه لقب «أمير المؤمنين فى الحديث» كأعلى رتبة فى الحفظ والإحاطة، وهو أعلم بالحلال والحرام من علماء كثيرين. والثورى هذا هو الذى رفض تولى القضاء وترك بغداد وخرج إلى مكة هاربا من السلطة، أما «الأوزاعى» فقد تنقل فى طلب العلم من الشام واليمامة والبصرة والمدينة المنورة وبيت المقدس، وقد رجحه مالك على الثورى، كما رجحه يحيى بن سعيد القطان على الثورى وأبى حنيفة.
أما رابع الأطراف فهو مالك بن أنس إمام المذهب المالكى وصاحب الموطأ وهو أشهر من أن نعرف به.
ــ2ــ
كان هؤلاء الرجال رضى الله عنهم يتقنون التفريق بين المتقاربات، فهناك فروق مهمة بين الحديث النبوى وبين السنة النبوية، وهناك فروق أخرى بين اتساع العلم وبين وضع كل حكم فى مكانه.
ومن ذلك ما حكاه الرواة، فقالوا: «دخل الثورى والأوزاعى على مالك بن أنس، فلما انصرفا من عنده قال لتلاميذه عن الرجلين: «أحدهما أكثر علما من الآخر، غير أنه لا يصلح للإمامة ــ مشيرا إلى الثورى ــ، والآخر فقيه يصلح للإمامة» فلم تكن كثرة العلم واتساعه عاملا مؤثرا فى تحمل المسئولية، ولكن الفقه.
ــ3ــ
ونحن هنا أمام منعطف هام ألا وهو ضرورة وأهمية التمييز بين«النص الشرعى» من ناحية وبين القدرة على الاستنباط منه من ناحية أخرى.
وقد تعلمنا الفرق بينهما من القرآن الكريم أولا، ثم من الحديث النبوى ثانيا. فالقرآن الكريم يقرر: ((.. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ..)). فها هو القرآن يقرر الفرق الواضح بين«الحافظين» وبين«أهل الاستنباط»، فحفظ النص الشرعى شرف كبير وقدر من العلم عظيم، لكن الاستنباط قدرة علمية أخرى غير مجرد الحفظ « لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ»
.. واقرأ هاتين الآيتين المتتابعتين من سورة النساء تدرك الفرق بين الحفظ وبين التدبر والاستنباط حيث يقول تعالى: ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيرا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا)).
كما يجلى الرسول صلى الله عليه وسلم القاعدة ويزيدها وضوحا بقوله: « نضَّرَ الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتى فحمَلها، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع» أو قوله: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدا سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا، رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
ــ4ــ
لذلك حينما تفرغ بعض التابعين لجمع الحديث النبوى وتنقيته مما شابه من قصور الحفظ والوهم أو النسيان أو الكذب أو الوضع، ظن بعض الناس أن حفظ الحديث الشريف كاف للإفتاء ثم تبين عقلاء الأمة وأصحاب القرآن وأصحاب الحديث أن الفقه والافتاء شىء والحفظ والتوثيق شىء آخر.
ولقد جعلوا مراتب تميز علماء الحديث كلها تدل على التمكن فى الحفظ والترقى فى كم المحفوظ، فرتبهم بين«الراوى»، «المحدث»، «الإمام»، «الحاكم»، و«أمير المؤمنين فى الحديث»
.. وعلى ذلك سمعنا حكم مالك بن أنس رضى الله عنه حينما قارن بين سفيان الثورى وبين الأوزاعى. وفى نفس المعنى قال عبدالرحمن بن مهدى: «سفيان الثورى إمام فى الحديث، وليس بإمام فى الفقه، والأوزاعى إمام فى السنة وليس بإمام فى الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعا». وهكذا وقف أهل القرن الأول والثانى على أهمية التفريق والتمييز بين الحديث النبوى بعمومه، والسنة النبوية بخصوصها.