قناة السويس - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قناة السويس

نشر فى : السبت 15 أغسطس 2015 - 10:45 ص | آخر تحديث : السبت 15 أغسطس 2015 - 10:45 ص

كانت مقدمة مقالى السابق «هل أطاح الربيع بالهويات العربية التقليدية؟» عن أهمية قناة السويس وسألتنى إحدى القارئات النابهات عن العلاقة بين مشروع قناة السويس والهوية المصرية، وكنت قد وعدتك ــ عزيزى القارئ ــ أن أتحدث اليوم عن «الهوية المصرية وتحدى المستقبل» إلا أننى فكرت أن أشاركك إجابتى للقارئة النابهة بالتأكيد على أن قناة السويس تمثل ركنا مهما من أركان الهوية المصرية لعدة أسباب، أهمها أن موقع مصر الاستراتيجى بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ميزها بهوية خاصة.

ولقد فكر الفراعنة أكثر من مرة فى حفر قناة تربط البحرين معا، وذلك لتسهيل التجارة العالمية بين الشرق والغرب إلا أن المشروع لم يدخل حيز التنفيذ، وفى العصر الحديث كان أول من اقترح هذا الأمر هو نابليون بونابرت، الذى دخل مصر غازيا عام 1798 م، والذى كان منبهرا بأمرين لا ثالث لهما الآثار المصرية خاصة الأهرامات وأبوالهول والموقع الجغرافى المميز لمصر، وقد اقترح أن تحفر قناة تصل بين البحرين الأبيض والأحمر، وبالطبع لا يفكر أحد بهذه الطريقة الاستراتيجية إلا سياسى عبقرى متحضر على شاكلة نابليون.

فقد توالت على مصر عبر العصور جحافل الغزاة من يونان وفرس ورومان وبيزنطيين، ثم دخلتها المسيحية فى القرن الأول وتلاها الإسلام فى القرن السابع ولم يفكر حكامها المرسلون لحكم مصر سواء من بيزنطة أو الخلفاء الأمويون أو العباسيين أو العثمانيين فضلاً عن المماليك فى مثل هذا الأمر لسببين، الأول لأنهم غرباء، والآخر لأنهم لا يملكون مثل هذه الرؤيا الاستراتيجية لهوية المكان.

فجغرافية المكان تتحدث عن ذاتها فالمكان له عبقريته كما تعلمنا من جمال حمدان وعبقرية المكان وهويته لا يكشفها إلا قائد ذكى يتمتع بتفكير مستقبلى، ولا شك أن نابليون كان من هذه النوعية لكنه رحل عن مصر ومن بعده حملته عام 1801م، وقد اقتنع بالفكرة محمد على الذى حكم مصر عام 1805 م بعد رحيل الحملة الفرنسية إلا أن تفكيره الاستراتيجى جعله يرى أن مصر فى حالة ضعف وحفر قناة مثل هذه سوف يجعلها مطمعا للغزاة خاصة أن الاقتراح جاء من أحد هؤلاء.

•••

لقد افتقدنا كثيرا تلك النوعية من القيادات التى تربط بين التاريخ والجغرافيا والبشر فتكتشف هوية المكان والزمان والإنسان، لقد كان قرار حفر القناة من نابوليون استراتيجيا وكان رفض الحفر من محمد على استراتيجيا بالمقابل وكل له مبرراته. ولعلنا نلاحظ ان الاثنين لم يكونا مصريين فالأول فرنسى والثانى ألبانى ولذلك استمر الفرنسيون فى إصرارهم على تنفيذ المشروع حتى نجح ديلسبس فى اقناع محمد سعيد بن محمد على بتنفيذه. وقد تم حفر القناة بعد موت محمد سعيد فى عهد الخديو إسماعيل، وهكذا اكتملت علاقة قناة السويس بالهوية المصرية عندما قام الإنسان المصرى بحفر القناة ودفع حياته ثمنا لذلك.

•••

لقد قضى مليون مصرى من أصل خمسة ملايين، مجمل سكان مصر آنذاك وقد تحدث مؤرخون وصيغت روايات تحولت إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية ومسرحيات عن التسخير والجوع والأمراض التى ألمت بالمصريين، أثناء حفرهم لقناتهم بالعرق والدمع والدم.

لقد اختلط قاع القناة وضفتيها ومياهها بدماء نقية طاهرة ونفوس طيبة مسالمة مستسلمة لحكام مستبدين وأرواح ارتفعت لبارئها تشكو الظلم والضيم وقلة الحيلة، فصارت القناة بعد حفرها بهم رمزا لمصر، ولم يعد لمصر تعريفا بدونها والأهرام.

بالطبع تحققت كل تخوفات محمد على فقد سيطر الإنجليز المحتلين لمصر عام 1882 على مقدرات القناة وإدارتها. ومع الوقت أصبحت القناة رمزا للاحتلال الإنجليزى وضعف المصريين المحتلين. حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952، وأراد عبدالناصر بفكره الاستراتيجى أن يبنى سدا عاليا فى أقصى الجنوب لكى يضاعف الرقعة الزراعية من خلال الرى الدائم على طول العام بديلاً لرى الحياض بالفيضان مرة واحدة سنويا هذا فضلاً عن إمداد الوادى بالكهرباء التى تولدها توربينات السد العالى، وهنا للمرة الثانية نقف أمام عبقرية الزمان (التاريخ) والمكان (جنوب الوادى) والإنسان عبدالناصر المعبر بحق عن كل المصريين، حينئذ لكن البنك الدولى أراد أن يوقف المشروع برفضه تمويله حتى تستمر مصر ضعيفة.

لقد ذكرهم ناصر بمحمد على وكان لابد من القضاء عليه ولكن عبدالناصر لم يستسلم وقام بتأميم قناة السويس وإدارتها مصريا ونجح فى ذلك وكان التحدى رهيبا فإذ بعدوان ثلاثى بريطانى فرنسى إسرائيلى هدفه سقوط عبدالناصر، لكن تدخل القوتين العظميين حينئذ أمريكا وروسيا مع صمود ناصر وقدرته السياسية على المناورة بفكر استراتيجى ومن خلفه الشعب المصرى أوقف العدوان، وهكذا استمرت القناة تعبر عن هوية مصر.

•••

فى عام 1967 تم اصطياد عبدالناصر، وقد كان مهيئا لذلك تماما لأسباب عدة منها الهزيمة فى مستنقع اليمن وعودة الجيش منكسرا فضلا عن الإدارة السيئة للجيش المصرى وتحدى التوجه العالمى لتحجيم مصر. لكن لم يكن ساكن القصر يعلم أن هناك مياها كثيرة مرت فى نهر السياسة العالمية منذ انتصاره السياسى فى 1956 فسقط، وأغلقت قناة السويس وضاعت سيناء ووقعت فى يد من لا يرحم. وخرج الشعب لإعادة ناصر الرمز الذى أعاد الأمور إلى نصابها لكن القدر لم يمهله لاستكمال الطريق وجاء السادات وأعاد الكرامة لمصر بانتصاره فى 1973 وإعاد فتح قناة السويس للملاحة رمز الانتصار وعودة الهوية، فالمكان (الجغرافيا قناة السويس وسيناء)، التاريخ (حرب 1973)، الإنسان المصرى الذى صنع ملحمة انتصار غير مسبوقة. ولن نتحدث عن الفشل الذريع للسادات فى إدارته الداخلية لمصر وتشجيعه للتيارات المتطرفة فأخذت مكانا غير مسبوق بمساومات انتهت باغتياله.

وجاء مبارك ليستكمل الفشل الداخلى بمسيرة تفكك المجتمع وتشريع الفساد والمساومات مع الإخوان وباقى الأحزاب مع قبضة أمنية بلا ضمير واستكمال مسيرة السداح مداح.
إن مافعله السيسى ليس حفرا لقناة السويس كما المرة الأولى، ولم يقم بتأميمها لأنها مصرية، وإن كنت أعتقد أنه أممها ثانية بقراره أن يودع دخل القناة فى البنك المركزى بعد ما كان ضمن مخصصات رئاسة الجمهورية.

•••

ومع انفجار الشعب فى 25 يناير وتنحى مبارك وتخبط القيادة فى إدارة البلاد وضياع مبادئ الثورة وفشل الإخوان فى توحيد القوى وتحقيق مبادئ الثورة وقيام ثورة 30 يونيو كانت مصر قد اصطدمت بقاع البئر وتحتاج لقفزة تصل بها إلى حافته لترى النور وتبدأ مسيرة جديدة يحدوها الأمل أن تحقق فى المستقبل ما ضاع منها، وهو كثير فكان مشروع القناة يرفع راية الهوية المصرية يذكر أن لنا تاريخا تليدا، ولنا إرادة حاضرة والمستقبل ينتظرنا، وكان حفل الافتتاح يقول ــ نحن المصريين ــ قادرون على الخروج من قاع البئر إذن لم تكن القضية حجم القناة ولا حربا ضد أحد، لكن كانت هل نحن قادرون على امتلاكها كرمز لمصرالحرة وصنع مصيرنا وبداية المشوار؟

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات