يوم الإثنين الحادى عشر من مايو سنة 1997 وفى إحدى ناطحات السحاب فى مدينة نيويورك الأمريكية وقف جارى كاسباروف بطل العالم فى الشطرنج آنذاك مادا يده لمهندس الكمبيوتر الجالس أمامه على الناحية الأخرى من الرقعة معلنا استسلامه فى الدور رقم 6 ضد السوبر كومبيوتر المسمى ديب بلو (أى الأزرق العميق) الذى صنعته شركة أى بى إم، الاستسلام فى هذا الدور يعنى خسارة كاسباروف للمباراة كلها، فاز كاسباروف بدور واحد من الستة وديب بلو بدورين وتعادلا فى بقية الأدوار.
تعتبر هذه المباراة نقطة فارقة فى قدرات أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة أو كما نطلق عليها سوبر كومبيوتر (supercomputer). هذه هى المرة الأولى التى يفوز فيها جهاز كمبيوتر على بطل العالم فى لعبة نعتبرها تدل على الذكاء.
مقالنا اليوم عن أجهزة السوبر كمبيوتر: ما هى؟ ما أهميتها؟ ولماذا تنفق دول مثل أمريكا والصين واليابان مليارات الدولارات فى تصنيعها؟ وهل يجب أن نهتم بهذا الأمر فى مصر؟
...
منذ سنة 1993 يتم نشر قائمة بأسرع 500 كمبيوتر فى العالم، يتم تحديث تلك القائمة مرتين كل عام فى يونيو وفى نوفمبر. أهمية هذه القائمة أنها تعطى فكرة عن سرعة أجهزة الكمبيوتر القوية فى العالم وأيضا الدول الكبرى فى هذا المضمار. الدول الثلاث التى تمتلك أجهزة فى المراكز العشرة الأولى فى أغلب السنوات هم أمريكا والصين واليابان. جدير بالذكر أن الصين احتلت المركز الأول من 2012 وحتى 2019، وهذا طبعا لم يعجب أمريكا.
العالم كله يعلم أن هناك حربا باردة بين أمريكا والصين، ولكن ما لا يعلمه أغلب الناس أن تلك الحرب مستعرة أكثر وتدور بضراوة فى مجال التكنولوجيا، لأنه عن طريق التكنولوجيا تزيد قدراتك فى تصميم وبناء الأسلحة والتجسس وصد التجسس المضاد. من أكثر المجالات التكنولوجية التى كانت الصين وأمريكا تتنافسان فيها هى بناء سوبر كمبيوتر بسرعة معينة هى (exaflops)، النصف الأول من الكلمة يعنى رقم واحد وبجانبه 18 صفر، النصف الثانى من الكلمة هى نوع العمليات الحسابية فى الثانية الواحدة. لاحظ أن السرعة هى أهم عامل فى أجهزة السوبر كمبيوتر، وتلك السرعة تقاس بعدد العمليات الحسابية فى الثانية. المنافسة كانت شديدة بين الدولتين منذ 2008، اليابان تراقب من بعيد، والدول الأوروبية خارج تلك المنافسة.
ربحت أمريكا تلك المعركة وصممت وبنت أول سوبر كمبيوتر بتلك السرعة وتم تركيبه هذا العام 2023.
لكن ما أهمية تلك السرعة؟ وما أهمية تلك الأجهزة عالية التكلفة والثمن؟
...
أجهزة السوبر كمبيوتر بسرعاتها العالية يمكنها تحليل المعلومات واتخاذ قرارات بشأنها بسرعة، فعلى سبيل المثال تعتمد مواقع التواصل الاجتماعى على تلك الأجهزة فى تحليل بيانات ومعلومات المشتركين حتى تتمكن من معرفة ما يريده كل شخص وأفضل طريقة لإقناعه بأمر ما وهذا يعتبر كنزا بالنسبة لخبراء التسويق وأجهزة المخابرات على حد سواء.
السرعة الكبيرة لتلك الأجهزة وخاصة السرعة التى تحدثنا عنها أعلاه تساعد فى أبحاث ما يسمى (precision medicine) وترجمته غير الدقيقة (الطب الدقيق) وهو باختصار تحليل حالة المريض وشفراته الوراثية... إلخ. لتصميم علاج يصلح لهذا الشخص فقط، ولكن بكفاءة عالية جدا. الكثيرون يعتقدون أن هذا هو الطريق الصحيح لتخليص العالم من مرض مثل السرطان. بدون سرعات عالية لأجهزة الكمبيوتر لن يتمكن الأطباء من تصميم علاج للمريض فى وقت مناسب قبل أن يموت المريض.
تلك الأجهزة تساعد أيضا فى تصميم نظم محاكاة عالية الدقة، وقد تحدثنا عن تلك النظم فى مقال سابق. نظم المحاكاة تساعد على التنبؤ بالحالة الجوية بدقة كبيرة وفى تصميم الأسلحة بجميع أنواعها وفى تصميم الأدوية إلخ. كلما زادت سرعة الكمبيوتر كلما صارت النظم أكثر دقة وأسرع فى إعطاء النتائج.
لا يجب أن ننسى أن سرعة تلك الأجهزة تساعد فى كسر التشفير لأجهزة الخصوم.
هناك نقطة مهمة يجب ألا نغفلها عندما نتحدث عن أجهزة الكمبيوتر عامة وأجهزة السوبر كمبيوتر خاصة: هل السرعة هى العامل الوحيد التى نقارن على أساسه تلك الأجهزة؟
...
السرعة هى الجانب الأهم لكن هناك جوانب أخرى مهمة:
• استهلاك الطاقة من العوامل المهمة. الطاقة تكلفتها عالية فمثلا استهلاك ميجاوات من الطاقة فى السنة يتكلف حوالى مليون دولار فى أمريكا، فاستهلاك الكهرباء يكلف أموالا. أسرع كمبيوتر فى العالم حاليا يستهلك حوالى 30 ميجاوات فى السنة أى أن فاتورة الكهرباء لهذا الجهاز حوالى 30 مليون دولار فى السنة. إذا تصميم جهاز كمبيوتر يستهلك طاقة أقل يعتبر من العوامل المهمة.
• عندما نتكلم على أجهزة بهذه القوة فنتصور أن يظل يعمل على مدار الساعة، لا نريد أن نسمع عبارة «السيستم واقع» وهذا يستلزم تصميم الأجهزة بطريقة بحيث تظل تعمل حتى وإن تعطلت قطعة منه، وهذا تخصص كبير ومهم فى تصميم الحاسبات.
• أيضا يجب تصميم تلك الأجهزة بحيث يصعب اختراقها، ونقول يصعب لأنه لا يوجد جهاز على وجه الأرض يستحيل اختراقه.
يأتى السؤال الأهم: أين نحن فى مصر من كل ذلك؟
...
يجب أن أعترف أننى أكتب هذا المقال باستمتاع لأن تصميم أجهزة السوبر كومبيوتر هو تخصصى البحثى الدقيق الذى أستمتع به وأتمنى أن أراه يظهر ويقوم بدوره فى مصر، فما هى الخطوات لذلك؟ هناك عدة خطوات يمكننا القيام بها وتساعد على ظهور مصر على خارطة الدول المستخدمة أولا والمطورة لتلك الأجهزة:
• أولا هذا النوع من الأجهزة له طريقة معينة فى البرمجة تختلف عن الطرق العادية التى يتم تدريسها فى الجامعات، يجب تدريس طرق برمجة تلك الحاسبات. هناك البعض فى مصر يمكنهم برمجة أجهزة السوبر كومبيوتر لكنهم يستخدمون أدوات وبرمجيات جاهزة. نريد مبرمجين يمكنهم استخدام تلك الأجهزة لحل مشكلات موجودة على الأرض فى مصر.
• ثانيا يجب أن نعترف أن تلك الأجهزة غالية الثمن جدا ولا يمكننا شراء الأنواع المتقدمة منها، لكن يمكننا تجميع أجهزة سوبر كمبيوتر متوسطة السرعة فى مصر، لن تكون من الأسرع فى العالم لكنها ستكون من أوائل الأجهزة التى يتم تجميعها فى أفريقيا والوطن العربى، ونحن عندنا الخبرات التى يمكنها القيام بذلك.
• ثالثا نريد أن نرى من يمكنه ابتكار لغة برمجة جديدة أو تحديث لغات حالية لتلك الحاسبات فلغات البرمجة الحالية تحتاج تجديدا.
• رابعا بعد التجميع يأتى التصميم، نريد بناء فريق يمكنه تصميم أجهزة سوبر كمبيوتر، هذا سيكون مكلفا لذلك لا يجب أن بخوض تلك المغامرة حتى نكون واثقين من قدرتنا على استخدام تلك الأجهزة بكفاءة لحل مشكلات داخلية، وبذلك نحصل على عائد مقابل ما ندفعه فى التصميم.
عندنا المقومات لندخل هذا المجال، لكننا نريد خطة واضحة واقتناعا تاما بأهمية تلك الأجهزة.