إلى أَىِّ عَهدٍ..؟ - أيمن الصياد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إلى أَىِّ عَهدٍ..؟

نشر فى : الأحد 16 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 16 يونيو 2013 - 11:16 ص

أعرف أن أحدا ليس لديه استعدادٌ أن يسمع أو يقرأ غير عن «الثلاثين من يونيو»، ماذا فيه.. ثم ماذا بعده. ولكننى أحسب «وسط كل هذا الضجيج» أن العطش أو الظلام لن يفرق بين مصرى وآخر. كما هو الموت، حين يردنا جميعا إلى التراب، ثم يردنا إلى الواحد الأحد فيحكم بيننا «.. فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». لذا اخترت أن أستكمل ما بدأته الأسبوع الماضى عن «النيل» الذى أضعناه استهانة واستعلاء واستكبارا، ثم ها نحن ــ بعد أن استهان من استهان «بوحدة الجبهة الداخلية»، التى هى شرطٌ لابديل عنه لمواجهة التحديات الخارجية ــ نتخبط فى طريق، بدا وكأننا لا ندرك حدودَه أو أبعادَه.  

 

•••

 

لا أعرف إن كان هناك من يدرك حقا حقائق العصر « وأدواته» فلم يكتف بخطب تهديدٍ لن يتجاوز «فعلُها» واقعيا المدى الذى يمكن أن تصل اليه مكبرات الصوت. ولكن هناك مشكورا «وهو دبلوماسى دولى رفيع» من أرسل إلى برابطٍ لحوار تلىفزيونى مهم أجرته شبكة تلىفزيونية إثيوبية مستقلة مع السيدة  Lori Pottinger وهى رئيسة تحرير لعدد من المطبوعات المتخصصة المهمة، بينها  International Rivers’ quarterly وWorld Rivers Review  والحوار الذى يكشف مخاطر السد من وجهة نظر علمية «محايدة»، يستوجب اهتمامنا، كما قد يحتاج إلى مقال مستقل يعرض ما فيه. 

 

ولكننى ردا على من تفضل، تعليقا على مقال الأحد الماضى بالسؤال عن الجوانب القانونية للموضوع «وحجج الطرفين»، عدت إلى جون ووتربرى John Waterbury وهو أستاذ للعلاقات الدولية فى جامعة برنستون Princeton، تعلم العربية فى مصر. وعاش فى منطقتنا عشر سنوات كاملة وله كتابان ربما كانا الأهم فى الموضوع. الأول:  Hydropolitics of the Nile Valley, 1979 والثاني: The Nile Basin: National Determinants of Collective Action 2002 

 

قبل أن يوضح لنا الأكاديمى ذو الشعر الأبيض (عمره ٨٤ عاما) التاريخ القانونى للمشكلة، ذات الطابع السياسى والاقتصادى بالدرجة الأولى، ينبهنا إلى حقيقة أن دراسة العلاقات الدولية تركز منذ وقت طويل على الظروف التى قد تدفع دولا ذات سيادة «للتعاون فيما بينها» لإيجاد حلول لقضايا مثل تلوث الهواء أو البحر، أو منع التسلح، أو انبعاثات غازات الدفيئة، أو ادارة الانهار التى تجرى عبر الحدود.. الخ. وكيف يمكن للسياسة أن تحسن اوضاع أصحاب الحصص دون لجوء للحرب أو للخسارة الاقتصادية.

 

يشير ووتربرى الذى يلح على أن «التعاون» أصبح السبيل الوحيد الواقعى للتعامل مع الأزمة، إلى أن اعادة التفاوض على اتفاقية ١٩٥٩ قد يمثل طريقا للخروج من المعضلة، خاصة وأن هناك تاريخا معروفا لتعديل الحصص. فحتى عام ١٩٢٩ لم يكن هناك اى ميثاق يحكم استخدام مياه النيل بين اصحاب الحصص الرئيسيين. وكانت مصر صاحبة حق لا يناقش «لكل» التدفق الطبيعى للنهر. أى أن مصر فى ذلك الوقت كانت تحصل عمليا على ١٠٠٪ من مياه النيل حسب مقياسها فى اسوان.

 

فى مايو ١٩٢٩ بعد اربع سنوات من اغتيال المصريين للسردار السير لى ستاك قائد القوات المسلحة السودانية - المصرية المشتركة، بدأ البريطانيون الذين كانوا يحكمون مصر والسودان فى تطبيق اتفاقية مياه النيل.

 

فيما بدا وكأنه نوعٌ من العقاب على حادث الاغتيال.. وقد قدرت الاتفاقية ان المياه المسموح باستخدامها من النيل ستكون بمعدل ٥٢ بليون متر مكعب كل سنة، وحدد حق مصر المكتسب عند ٤٨ بليون متر مكعب والسودان ٤ بلايين متر مكعب. أى ان مصر اكتسبت حقا يمثل ٩٢٪ مقابل ٨٪ للسودان.

 

بعد ذلك بثلاثين سنة أعيد التفاوض لتحصل مصر على ٥٥,٥ بليون متر مكعب  بنسبة ٦٦٪ من المياه القابلة للاستغلال وارتفعت حصة السودان إلى ٢٢٪. وحدد ١٢٪ من المياه القابلة للاستغلال للفقدان بالتبخر والتسرب فى خزان السد العالى. كما قضت الاتفاقية بأن أى زيادة عن معدل التدفق الطبيعى (أو نقصان) يجرى قسمتها مناصفة بين الدولتين. ثم كان أن تنبأ المتفاوضون حول الاتفاقية (١٩٥٩) أنه إذا طالبت دول اعالى حوض النيل بحصتها من المياه فإن «الخسارة» سوف تقسم مناصفة بين الدولتين.

 

ويرى ووتربرى أستاذ العلاقات الدولية أن السياسة تعرف دائما أن هناك مساحة للحركة بين التأويل القانونى الجامد للحقوق المكتسبة وبين  تأويل يأخذ فى اعتباره دعاوى الاستخدام العادل. وأن السياسة اذا اتسمت بالحكمة تنظر بالضرورة إلى ماهو «أبعد من أنفها». وهكذا كان عندما أعطى المصريون فى حينه  (١٩٥٩)  قيمة لعلاقات ودية وطبيعية مع سودان كامل السيادة.

 

•••

 

يبدو الأمر إذن  وكأنه صراعٌ بين حقائق الجغرافيا وميراث التاريخ. فقانونا هناك مبدآن متناقضان فيمايسمى القانون العرفى للمياه الدولية. احدهما يسمى «الحقوق المكتسبة» والآخر «الاستخدام العادل». الحقوق المكتسبة ينادى بها اصحاب الحصص الذين طال استخدامهم لمصدر مائى.. وهو مبدأ تاريخى يلخص احيانا بمقولة: الحق الاول للمستخدم الاول. وهى المقولة التى تمثل حجر الزاوية فى الحجة المصرية. فقد كانت مصر المستخدم الاول من ايام الفراعنة. ولا أحد بوسعه أن يجادل فى هذا. ثم إنها ولمدة اربعين سنة  استخدمت ٥.٥٥ بليون متر مكعب.

 

على الناحية الأخرى، فإن اثيوبيا والسودان يجادلان فى الاستخدام العادل والتطور المحتمل، فحقائق الجغرافيا تقول إن لديهما مساحات هائلة من الارض التى لم تستغل بعد أو كان استغلالها بدائيا. وتقول اثيوبيا طوال الوقت ان عرقلة تطورها بالحد من حقها فى مياه النيل هو مسألة غير عادلة وأن الحقوق المكتسبة ينبغى ان تفسح الطريق للقسمة العادلة.

 

وترد مصر عادة بأن هذه الدول، بعكس مصر غزيرة الأمطار. وأن بإمكانها الاعتماد على أمطارها فى تطوير الزراعة. إلا أن هذه الحجة رغم صحتها كانت تصطدم كل مرة برد إثيوبى يشير إلى أن  بناء السدود والخزانات يكون أيضا لتوليد الطاقة الهيدروليكية. كما أن سقوط الأمطار موسمى وغير متساو فى توزيعه. مما يقتضى بناء سدود لتخزينه. 

 

وحسب جون ووتربرى فمن الممكن لمصر قانونا، وتطبيقا لمبدأ «الحقوق المكتسبة» ان تظل متمسكة بالأمر الواقع، ولا تقدم اية تنازلات لدول المنبع. ولكن، واقعيا يمكن أيضا لدول المنبع خاصة اثيوبيا ان تتصرف بدون موافقة مصر. وهذا قد يعنى اقامة مشروع أو اكثر لتوجيه المياه للزراعة أو الطاقة الهيدروليكية أو كليهما.

 

فى القانون الدولى وفى التطبيق، الأفعال أحادية الجانب التى تؤثر على دول المصب غير مقبولة. وبالتأكيد لن يمول البنك الدولى مشاريع لا تنال رضا كل الدول المتشاطئة. ولكن بعض الدول قادرة على تمويل مشاريعها من مواردها الخاصة. كما أن هناك دولا راغبة فى تمويل مشاريع كجزء من اتفاقيات تجارية اوسع حتى فى غياب قبول دول الحوض. ويجب ملاحظة ان «القبول» فى القانون الدولى له حدود. كما لا يوجد حق مطلق للفيتو فى أحواض الانهار الدولية.

 

خلاصة القول إذن، كما ذكرنا فى مقال الأحد الماضى أن  السياسة لم تكن أبدا قانونا فقط.، بل مكان «ومكانة». وأن العامل الحاسم فى المعادلة هنا لم يعد مقياس النيل ارتفاعا وانخفاضا، أو بندا فى اتفاقية هنا أو معاهدة هناك. وانما «قدرة» كل طرف على أن يصل إلى أهدافه. ولهذه القدرة عوامل ومعايير نقرأها فى كتب التاريخ، ونرسمها فى خرائط الجغرافيا.. ويعرفها أساتذة العلاقات الدولية. 

 

•••

 

وبعد..

 

فقد حمل لنا شريط الأخبار هذا الأسبوع، أن أديس أبابا بادرت بتصديق برلمانها «بالإجماع» على اتفاقية عنتيبى التى تنهى زمن «الحصص التاريخية» لدولتى المصب، مصر والسودان. كما خرج يورى موسيفينى، الرئيس الأوغندى داعيا الدول الأفريقية أن تحذو حذو إثيوبيا، ويقول: «أنصح القاهرة أن تكف عن هذه التصريحات الاستعلائية»، كما ورد بجريدة «الشروق» بالأمس.   

 

•••

 

ربما يذكر البعض رائعة أحمد شوقى التى غنتها أم كلثوم (١٩٤٩) والتى استفتحها بسؤاله المعجَب المندهش: «مِن أَيِّ عَهدٍ فى القُرى تَتَدَفَّقُ؟» فهل يا ترى جاء علينا زمن سنضطر فيه إلى تعديل «له دلالته» فى السؤال ليصبح قلقا: «إلى أَيِّ عَهدٍ فى القُرى تَتَدَفَّقُ؟».. (؟)٠

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات