عبدالوارث عسر - كمال رمزي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 10:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبدالوارث عسر

نشر فى : السبت 17 سبتمبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 17 سبتمبر 2011 - 9:00 ص

أجمل الآباء.. على شاشة السينما المصرية يسطع بالضياء.. وسط ظلال الأفلام   سبعة عقود.. من الإبداع المتواصلحتى فى أكثر الأفلام تواضعا، كان عبدالوارث عسر، بأدائه الطبيعى، يضفى عليها شيئا من المنطق. أو على الأقل، يجعل من دوره، باقتدار، وحدة خاصة، مستقلة ومؤثرة، تشع بضياء ما، وسط ركام هذا الفيلم أو ذاك.. لم يكن عبدالوارث عسر، وهو فى شرخ الشباب نجما. ولم يطلع ببطولة، ولكن حضوره أقوى وضوحا من النجوم الذين عمل فى ظلهم.. استطاع أن يغدو، بجدارة، نسيجا فريد أو خيطا من ذهب، فى تاريخ التمثيل المصرى. وهو فى هذا لم يعتمد على مجرد الموهبة التى تمتع بها، ولكنه، بجلد ودأب سار فى الطريق الجاد، الصعب، فصقل موهبته وأطلقها، وعلّم نفسه بنفسه، وأغدق علمه وخبرته على طابور طويل من الفنانين، ومنح المكتبة العربية كتابا فريدا فى «فن الإلقاء».. لا يزال هو الكتاب العمدة فى هذا المجال، الذى يليق بالممثل أن يستوعبه ويتفهمه.

 

 

الخطوات الأولى

 

عبدالوارث عسر «17/9/1884 ــ 22/4/1982» ولد فى بيت كبير بحى الجمالية العريق. كان والده الثرى، صاحب أراض زراعية فى البحيرة. يعمل «محاميا» فى القاهرة، ومثل معظم أثرياء ذلك العصر، تعوّد على التردد، بانتظام، على فرقة «سلامة حجازى»، ذائعة الصيت، مصطحبا معه ابنه ــ عبدالوارث، الذى بدأ قلبه يخفق بحب عالم الأصوات والأصواء والانفعالات والحكايات.. ومن جهة أخرى، أخذ الفتى يطالع بعض الكتب فى مكتبة والده. قرأ فيما قرأ العديد من الدرر العربية: «الأغانى»، «مجمع الأمثال»، «ألف ليلة وليلة»، «الحيوان»، «الأمالى»، فضلا عن تاريخ الطبرى وابن حلكان.. وبقيت هذه الثقافة العربية الرصينة. حية مزدهرة فى روح عبدالوارث عسر، وانعكست على كتاباته لعشرات المسرحيات والسيناريوهات، واستفاد منها فى كتابه الفريد عن «فن الإلقاء».

 

تفتحت آفاق عبدالوارث عسر عندما تابع عروض جورج أبيض الذى عاد من باريس فى العشرينيات ليقدم تراجيديات سوفكليس وشكسبير وكورناى وراسين، وازداد تعلقه بفن التمثيل، وأدرك أن هذا «الفن له تاريخ موغل فى القدم، وأنه «علم» يتطلب دراسة لا تقل جدية عن دراسة أى فرع آخر من فروع العلم.

فى العام 1914، أثناء استعداده للالتحاق بمدرسة الحقوق العليا ليصبح محاميا مثل أبيه، توفى والده. واكتشف الشاب أن أسرته فى مأزق مالى صعب، فالديون تحاصر الأسرة التى وجد نفسه مسئولا عنها، وعليه إنقاذ الأرض المرهونة للبنك العقارى. انتقل بالأسرة إلى «البحيرة»، وباشر الزراعة بنفسه، واستطاع بحكمة أن يسدد الديون، وأن يعيد التوازن إلى عائلته المهددة. وربما كان لقيامه المبكر دور الأب، فى الحياة، أثر فى ذلك الدور الذى سينبغ فيه على الشاشة، لأكثر من نصف قرن.

 

الحلم بأن يصبح ممثلا لم يفارقه.. فعن تلك الأيام وذلك الحلم يقول فى مذكراته الممتعة التى كتبها الناقد النزيه فؤاد دوارة، ونشرها بمجلة الكواكب عام 1982، ولم تجمع فى كتاب!.. «كنت ألاحظ أن وجهى معبر، وكثيرا ما تأملت نفسى فى المرآة فأرى وجهى مستطيلا، وأستطيع بقدرة من الله أن أشكله كيفما أشاء ليعبر عما أحسه فيظهر بوضوح فى عينى وتقاطيعى.. هذه أهم مميزات الممثل، فلماذا إذن لا أعمل ممثلا».. ويستكمل «قررت أن يكون التمثيل مهنتى، ولكن كيف أبدأ وإلى أين أذهب».

 

اتجه عبدالوارث عسر إلى جورج أبيض فطلب منه الفنان الكبير أن يؤدى أمامه مشهدا.. كان عبدالوارث قد أعد العدة للاختبار، فهو يحفظ خطبة الحجاج بن يوسف الثقفى عندما دخل الكوفة بعد تعيينه واليا على العراق من قبل الخليفة عبدالملك بن مروان، ومطلعها «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوننى».. طبعا، درس عبدالوارث الخطبة، وظروفها، وتدرب على إلقائها بلغة عربية سليمة، ويبين بصوته، وتعبيرات وجهه، معانى القوة والكبرياء والجبروت، ممتزجة مع نغمة نذير وتهديد ووعيد.. والواضح أن الأداء البديع لعبدالوارث عسر أرضى جورج أبيض الذى سحب «تلميذه» الجديد من أعلى «التياترو» حيث كان يجلس، ليذهب به إلى خشبة المسرح أثناء إجراء الفرقة بروفة قراءة، ويقدمه لهم كعضو سيكون له شأن فى عالم التمثيل.

 

 

نحو الاحتراف

 

عبدالوارث عسر، من القلة التى تفكر طويلا فى التفاصيل كافة، يدرس، يتعمق، فى أبعاد وزوايا ودلالات العمل الذى سيشارك فيه، ويستوعب دقائق الدور الذى يقوم به، وكيفية التعبير عنه، ولعل الواقعة التالية تبين بجلاء طريقته الجادة فى عمله، وتعطينا درسا ثمينا فى كيفية إتقان الدور، والوصول به إلى أعلى المستويات اكتمالا: أسند له جورج أبيض دور الراعى فى مسرحية «أوديب» لسوفكليس. رجل عجوز يعرف تماما سر الوباء الذى حل بالمدينة، ولأن الراعى يعرف أن الملك هو السبب فإنه يتردد أمامه فى الكشف عن السر. الملك الغاضب يدفع الراعى فى صدره فيقع أرضا.

 

كان عزيز عيد هو الذى يؤدى هذا الدور. لكن عزيز، بعد عدة ليال، تمرد، ورفض المواصلة، لأن الجمهور يملأ الصالة بالضحك، خاصة حين يقع الراعى. وبينما فسر الجميع هذا الضحك على أنه غلظة ذوق من جمهور يريد أن يضحك من كل شىء، أدرك عبدالوارث عسر أنه لابد من أن يكون ثمة دوافع أخرى، تكمن فى طريقة الأداء، وأن عليه اكتشاف هذه الأسباب وتلافيها.

 

ذهب عبدالوارث عسر إلى أحد الأطباء وسأله إذا كان من الممكن ألا يرتعش شيخا هرما جاوز المائة عام. وأجابه الطبيب بأنه من الممكن إذا كان العجوز مصابا بالتصلب. وفى هذه الحالة تكون حركته صعبة. وشرع عبدالوارث يعيد صوغ «الراعى» بناء على هذه المعلومة الجوهرية، وبدلا من اللحية الطويلة، المشعثة التى يظهر بها عزيز عيد، جعلها قصيرة، عريضة، فأكسبته جلالا. وبدلا من أن يرتعش وقف ساكنا، وعندما يدفعه «أوديب» ــ جورج أبيض ــ لا يسقط على الأرض، ولكن يميل على أحد الجنديين الممسكين به. وجاء رد فعل الجمهور أبعد ما يكون عن الضحك، فقد اقتنع بتلك التفاصيل الجديدة، والتى أحدثت فى وجدانه أثرا شديدا.

 

 

ملامح خاصة

 

فى مجال المسرح، عمل عبدالوارث عسر مع نجوم عصره: عبدالرحمن رشدى، زكى طليمات، سيد درويش، عبدالعزيز خليل، أحمد علام، حسين رياض، نجيب الريحانى، يوسف وهبى، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.. وفى مجال السينما، ظهر على شاشتها، منذ بداياتها، فعمل مع أجيال متوالية من المخرجين، ابتداء من محمد كريم، حتى على بدرخان، وضمت قائمة أفلامه ما يقرب من المائة فيلم.. واستطاع أن يكوِّن لنفسه شخصية فنية لا تنتمى إلا لعبدالوارث عسر.. تلمس ملامحها فى الصوت المعبر عن أدق معانى الكلمات، تنطلق بها ملامح وجهه اللينة قبل أن تخرج من فمه، فضلا عن عنق لا مثيل له عند كل ممثلينا. عنق طويل، معرورق، يستطيل فى حب للاستطلاع، ويقصر فى مواقف القلق والخوف، وتكاد ترى ريقه، من وراء الجلد، وهو يبلعه بصعوبة، حين تنتابه لحظات الحرج. إنه يجسد الانفعالات، مهما كانت عاصفة أو معقدة، ببساطة خلابة. ومرجع هذا أنه يتفهم مشاعر الشخصية التى يؤديها، ويتشبع بها روحيا، ويدرسها دراسة علمية، ويؤديها محققا نوعا من التوازن الفريد بينها وبين شخصيته، فهو لا يستسلم ولا يذوب فيها، وأيضا لا يخضعها له تماما، ولكنه يعبر عنها بعمق وإدراك. وقد ساعدته ثقافته الواسعة فى فهم الأجواء التاريخية أو الاجتماعية التى تتحرك فيها هذه الشخصية أو تلك.

 

 

أدوار.. فى القمة

 

مع يوسف شاهين، قدم ثلاثة أدوار لامعة: «صراع فى الوادى» 1954 «الأرض» 1970، و«إسكندرية ليه» 1979.. جسد فيها شخصيات شديدة التباين.

فى «صراع فى الوادى» ــ الفيلم المصرى الوحيد الذى يعدم فيه أحد المواطنين ظلما ــ تلفق جريمة قتل للرجل الورع الطيب، عبدالوارث عسر.. وفى قاعة المحكمة تشير كل الدلائل على أنه هو الجانى، ويحاول الرجل، بكل قواه الخائرة، التى يستجمعها للحظات، أن يقنع القضاة بأنه غير مذنب، بصوت متهدج وعيون تتسول تصديق الآخرين.. وتتجلى قدرات عبدالوارث عسر فى الثوانى المريعة التى سبقت الحكم بإعدامه، فهنا، تكشف نظراته الزائغة عن رعب يكاد يتغلب على إحساسه كرجل مؤمن بقضاء الله وقدره.. وتستطيل رقبة عبدالوارث عسر أثناء نطق الحكم كما لو أنه يريد أن يستمع له بكل كيانه وليس بأذنيه فقط. وما أن يصدر الحكم حتى يتهالك داخل ذاته، مذهولا فى البداية، مستسلما فى النهاية.. إنه من أقوى المواقف فى السينما المصرية.

 

وعلى نحو مغاير للكثير من أفلامه، يقوم فى «الأرض» بدور العمدة المكروه من سكان القرية، الخانع للسلطة، الضعيف، الخائف من الفلاحين، الكاره لهم جميعا، خاصة بعد تعرضه للإهانة من النساء. ويعبر عبدالوارث عسر عن تشفيه وهو يشهد ضرب أحد الفلاحين بالسياط، فالغبطة تتجلى وراء وجهه الصارم، وتكاد تفلت منه ابتسامة رضا وهو يقول بصوت يمتزج فيه الحقد مع الارتياح: «آه.. يا فراعنة».

 

وفى مشهد صغير، وحيد، فى «إسكندرية ليه»، يجسد عبدالوارث عسر، بمهارة، حنكة زعيم أحد الجماعات الدينية، يريد «الضباط الأحرار» أن يجذبوه مع رجاله، إلى تنظيمهم. ولكنه، بنعومة تعكس خبرة سياسية واسعة، وقدرة على المراوغة، يقول كلاما جميلا، مرضيا لمستمعيه، فيبهرهم. وسرعان ما يكتشفون، ونكتشف معهم، أن العجوز المدرب، يريد أن ينضموا هم إليه وليس العكس.

 

وإذا كان عبدالوارث عسر مثّل فى العديد من أفلام صلاح أبوسيف، فإن دوره فى «شباب امرأة» 1956، المكتوب ببراعة، يعد من أدواره البالغة القوة.. فالعجوز هنا، الذى يعمل فى خدمة المرأة الشرهة ــ شفاعات ــ بأداء تحية كاريوكا، كان فى الماضى، رجلا محترما له زوجة وأبناء. هجر بيته واختلس من محل عمله. دخل السجن، وعندما خرج، مهدّما ضائعا، لم يجد أمامه إلا المرأة التى كانت سببا فى نكبته، وها هو يعمل عندها، مجرد موظف صغير فى المعصرة التى تملكها.

موقفان نموذجيان فى «شباب امرأة» يستحقان التأمل.. الأول، عندما ينتعش قلب الرجل بالنشوة، ربما بفعل الخمر، فيطلب من المرأة، فى نوبة من نوبات رعونة الرغبة العاصفة، أن يعيد الماضى الجميل، وهو يقنعنا تماما، بقوة تلك الطاقة الشهوانية التى تطل من عينيه، وأن قلبه لا يزال شابا، وأنه على الرغم من كهولته، يريد، ويستطيع أن يفعل.

أما الموقف الثانى، فيأتى فى مشهد النهاية، حيث يثأر العجوز من المرأة التى تجسد، فى لحظة من لحظات الجنون، كل الفشل والضياع والمهانة التى لاقاها فى حياته.. إن المرأة تسقط بين دوائر المعصرة الحجرية.. فيندفع العجوز ضاربا الدابة التى تدير المعصرة. وبينما جسد المرأة يعصر، ترتسم على وجه عبدالوارث عسر علامات نشوة وحشية، ويأتى صوته من أغوار بعيدة، وهو يحض الدابة على مواصلة الدوران.

 

إلى جانب الأدوار المغايرة، قدم عبدالوارث عسر، كثيرا، ذلك النموذج، الذى سيظل باقيا فى ذاكراتنا، والذى يعد من أجمل وأرق الصور الإنسانية: الأب الذى يخفق قلبه بحب أبنائه. يصلى لله طالبا الخير لهم.. يفرح لنجاحهم وسعادتهم أكثر منهم. يقف وراء الباب منتظرا بشغف عودة ابنه الضال. يبحث بلا كلل عن ابنته التى تضيع فى المدينة.. أبوة شفافة، تمشى على قدمين، تتجلى فى النظرة واللمسة والخلجة، وتعبر عن أسمى العلاقات الإنسانية.. عبدالوارث عسر.. أحد أجمل آباء السينما المصرية.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات