النقشبندى والعذراء وسعد الصغير فى استاد القاهرة - وائل قنديل - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النقشبندى والعذراء وسعد الصغير فى استاد القاهرة

نشر فى : الإثنين 16 نوفمبر 2009 - 10:42 ص | آخر تحديث : الإثنين 16 نوفمبر 2009 - 10:42 ص

 عندما دقت الساعة الثانية ظهرا كانت 65 ألف حنجرة قد استقرت على مقاعدها فى مدرجات استاد القاهرة، فيما كان عشرات الآلاف خارج أسوار الاستاد يناضلون من أجل الدخول، بعضهم كان يحمل تذاكر سليمة لا شية فيها، وآخرون أوقعهم حظهم العثر فى تجار التذاكر المضروبة والتى لا تختلف فى شكلها عن السليمة.

أحد الذين فازوا بتذاكر سليمة واجهته مشكلة أخرى حين منعه جنود الأمن المركزى من الدخول بحجة أن المدرجات قد امتلأت بالجمهور، ولم ينقذه إلا ضربة كوع من الفنان حاتم ذوالفقار الذى كان يزاحم فى الطابور الطويل من أجل الدخول، فما كان من صاحبنا إلا أن دخل فى مشاجرة مع الفنان تدخل لاحتوائها عدد من أصحاب الرتب الكبيرة وانتهت إلى أن الصلح خير على أن يسمح لطرفيهما بالمرور إلى داخل الاستاد.

عند الساعة الثالثة كان زئير الثمانين ألفا من الحناجر يهز المدرجات ما دعا المذيع الداخلى إلى الطلب من الجماهير قليلا من الترشيد فى الهتاف لكى لا ينفد مخزون التشجيع قبل أن تبدأ المعركة فى المستطيل الأخضر، غير أن أحدا لم يستجب للدعوة، فدخل المطرب الشعبى سعد الصغير طرفا داعيا الجماهير للغناء معه للعنب والمانجو وبقية أنواع الفاكهة، فلم يتوقف أحد عن الهتافات الصاخبة للفريق.

وحدها العظيمة شادية التى استطاعت إسكات الحناجر، لكنها أشعلت القلوب وأغرقت العيون بالدمع الشفيف حين علا صوتها فى جنبات الاستاد «ماشافش الولاد السمر الشداد أصله ماعداش على مصر يا حبيبتى يا مصر» لم يردد أحد مع شادية بل خيمت على المكان نوبة من الصمت الجليل وكأن الجميع دخلوا فى الصلاة بكل خشوع.

كانت المدرجات أشبه بسجادة يتعانق فيها الأحمر مع الأسود مع الأبيض، بينما لم يكن هناك أثر للأخضر الجزائرى حتى الرابعة بعد العصر إذ فضل القائمون على الأمر الإبقاء على الجماهير الجزائرية خارج المدرجات حتى يقترب موعد المباراة منعا للمشكلات وتخفيفا لحالة الشحن الهائلة.

فى المقصورة الأمامية كان لدى روادها رفاهية الحديث فى موضوعات جانبية بعيدا عن أجواء المباراة، على العكس تماما من مدرجات الثالثة والثانية التى لم يتوقف زئير أصحابها لحظة واحدة.. كانت دينا خريجة الإعلام والموظفة فى إحدى شركات الغاز تتحدث مع صديقتها عن حالة الملل والرتابة التى تخيم على المقصورة، كانت دينا تشكو من هذه المدرجات المنشأة التى تمتلئ بالعديد من نجوم الفن والمجتمع وتفتقر إلى الحرارة والحميمية «همه مالهم كلهم منشيين كده» قالت دينا.

وفجأة دخلت دينا فى نقاش محتدم مع الخمسينى الجالس خلفها حين لمحته يلقى بقشر اللب على الأرض، فانبرت تحدثه عن التحضر وضرورة الحفاظ على نظافة البلد، لم يغضب الرجل لكنه لم يتوقف عن إلقاء قشر اللب على الأرض، كرد فعل انتقامى مما حدث معه على بوابة الاستاد حيث لم يتمكن عشرة من أقاربه من الدخول رغم أنهم يحملون تذاكرهم بعد أن تحجج الضباط بأن المدرجات امتلأت ولم يعد هناك موضع لأحد.. وحين دخل وجد عديدا من المقاعد وقد ذهبت لمن لا يستحق حيث احتلها معارف وأقارب الضباط.

والمدهش أن كلا الطرفين الرجل والفتاة كانا متفقين على أن سلوك الأول عشوائى وغير حضارى، لكنها ابتسمت ولم ترد حين قال لها: كيف تطلبين أن يكون هذا المكان منظما وحضاريا بينما الفوضى والعشوائية على أبوابه؟

غير أن شيئا آخر كان موضع اتفاق الرجل والفتاة وكل من فى المدرجات، وهو السأم من مواعظ المذيع الداخلى للاستاد والذى بدا وكأنه جاء لإعلان الدولة الدينية فى مصر.. خذ عندك مثلا: لا تمر نصف ساعة إلا ويمسك الرجل بالميكروفون طالبا من جميع من فى المدرجات قراءة الفاتحة وراءه، ثم يتبعها بقراءة «قل هو أحد» وهو يأمر الجماهير بأن تردد خلفه، ثم يأمرهم بأن يؤمنوا خلف ما يتلوه من أدعية تذكرك بدعاء غلاة الخطباء فى مساجد التطرف «على اليهود والنصارى ومن والاهم».

لكن الأكثر إثارة أن السيد المذيع عندما حان موعد أذان المغرب طلب من الجماهير الصمت وترديد الأذان خلف الشيخ النقشبندى حتى تخيل البعض أنه سيطلب من الجماهير نزول أرض الملعب للصلاة خلفه، غير أنه كان رءوفا بهم، إذ اكتفى بأن أمر المائة ألف الذين اكتظت بهم المدرجات بالدعاء.

ولأن ربك رءوف بعباده يبدو أن هناك من مسئولى الاستاد من رصد الضجر بين الحشود من المذيع فكان يقطع هذه الحالة بصوت شادية مرة أخرى وهى تغنى «أصله ما عداش على مصر» لامتصاص الملل ولو للحظات، خاصة أن جماهير الجزائر كانت قد أخذت مكانها فى المدرجات وارتفعت أصواتها بالهتاف والتشجيع المحموم، بينما كان السيد المذيع يتحدث عن المنظومة التى صنعت النجاح بدءا من الرئيس مبارك مرورا بالاستاذ جمال مبارك ثم الأخ الأكبر للمنتخب الأستاذ علاء مبارك وانتهاء بالصقر حسن صقر كما أطلق عليه.

وحين جاء موعد أذان العشاء كان المذيع ينبه على المائة ألف من تلاميذه فى المدرجات بضرورة ترديد الأذان خلف الشيخ النقشبندى ثم الدعاء بالنصر وقراءة الفاتحة خلفه أيضا، والصمت عن الهتاف لمدة عشرين دقيقة لتوفير طاقة الحناجر والطريف أنه كان طوال الوقت يطلب ذلك من جمهور مصر فقط وكأن الجزائريين لا يعرفون الأذان والصلاة.

لكن الجموع الغفيرة كانت لها أجندتها الخاصة التى جاءت بها من كل مكان فى مصر، ومن ثم لم يكونوا فى حاجة إلى نصائح ومواعظ المذيع، فراحوا يرددون أغانيهم وشعاراتهم حيث كانت الدرجة الثالثة كالعادة هى صانعة البهجة والأمل فى الانتصار.

وعندما بدأ نزول اللاعبين أرض الملعب تحول المكان إلى كتلة من اللهب وتناوب عدد من الفنانين قيادة جماهير المقصورة للهتاف، إلا أن أصواتهم لم تكن تسمع إذا ما قورنت بما يصدر من زئير أسود الدرجتين الثالثة والثانية، والذى لم يتوقف طوال المباراة.

وكان هدف عمرو زكى المبكر فى دقائق المباراة الأولى أشبه برسالة إلى الجماهير بأن حلم المونديال على بعد خطوة إذ صار لدى الجميع ما يشبه اليقين بأن مصر فائزة لا محالة، حتى مع تسرب الدقائق واقتراب المباراة من أن تلفظ أنفاسها الأخيرة كان لدى غالبية الجماهير شعور بأن الفرج سيأتى.

والشىء الغريب أن الذين كانوا يتندرون على ما اعتبروه افتعالا من المذيع الداخلى وإقحاما للدين فى الموضوع كان هتافهم الوحيد فى الدقائق الأخيرة «يارب» لكن أجمل لقطات اللقاء أكثرها دلالة هى تلك التى كانت فى الدقيقة قبل الأخيرة، حين كان الرجل ذو اللحية الكثيفة يدعو بأعلى صوته ويتمتم بقصار السور، فيما كان جارى الأنيق فى المقعد المجاور يصرخ بأعلى صوت مستدعيا السيدة العذراء، وما أن جاء هدف عماد متعب حتى تعانق الاثنان والدموع تسيل على وجنتيهما ثم احتضن كلاهما كل من كان فى طريقهما من رفاق المعركة.

وهذا المشهد لو كنت رأيته فى فيلم سينمائى لقلت إنه مبالغة وافتعال من كاتب السيناريو والمخرج، لكنه حدث بالفعل ورآه عشرات المتفرجين فى الاستاد.

لكن أجمل المشاهد وأكثرها دلالة على طيبة وعظمة هذا الشعب كان بطله أحد الجالسين فى المقصورة الأمامية لحظة دخول علاء وجمال مبارك للمقصورة الرئيسية، حين عبر هذا المواطن عن تعاطفه مع علاء مبارك وهو يحضر أول مباراة مهمة للمنتخب دون أن يكون معه ابنه الراحل محمد ــ رحمه الله، والذى وصفه المشجع بأنه كان «وش السعد» على الفريق.

وائل قنديل كاتب صحفي