المجلس الاستشارى - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المجلس الاستشارى

نشر فى : الجمعة 16 ديسمبر 2011 - 9:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 16 ديسمبر 2011 - 9:05 ص

لم ينجح حكام مصر المؤقتون فى شىء خلال الأشهر التى تولوا فيها إدارة شئون البلاد قدر نجاحهم فى شق الصف الوطنى، ولم تكن تلك مهمة صعبة، لأن القوى السياسية المختلفة آثرت ــ فى كل مرة ــ أن تثق فى مؤسسة تمتلك سلاحا ولا تستند لشرعية ديمقراطية اكثر من ثقتها فى الشعب أو فى بعضها البعض، ولا يعدو المجلس الاستشارى المشكل مؤخرا على أن يكون تجليا آخر لتلك المحاولات الحثيثة لشق الصف من أجل شروط أفضل للعسكر فى تسليم السلطة.

 

الثابت أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حاز شرعية سياسية مؤقتة بقوة الضرورة وحكم الأمر الواقع فى أعقاب خلع مبارك، وأن هذه الشرعية السياسية ظلت تتآكل خلال الأشهر الماضية، بسبب انقضاء المدة المحددة سلفا للمهمة الانتقالية أولا، وبسبب فشل الحكام المؤقتين فى إدارة الملفات الرئيسية فى مرحلة الانتقال (وهى الأمن، والاقتصاد، والتطهير) ثانيا، وبسبب التمادى فى عسكرة الساحات المدنية باستمرار إحالة المدنيين لمحاكمات عسكرية ثالثا، ثم سقطت هذه الشرعية بشكل كامل بسبب إراقة دماء المصريين فى الأحداث الأخيرة.

 

وقد جاء سقوط للشرعية السياسية للحكام المؤقتين متوازيا مع قيام شرعية بديلة تتمثل فى البرلمان الذى ينتهى انتخاب أعضائه بعد أيام صارت معدودة، وبعكس الحكام المؤقتين يستند البرلمان إلى شرعية ديمقراطية، إذ يتشكل من أعضاء يعبرون عن كل أطياف النسيج الوطنى وإن بنسب متفاوتة، تم انتخابهم بشكل ديمقراطى فى انتخابات خرجت فيها غالبية الشعب للإدلاء بأصواتهم، وهو بذلك يمتلك قدرا من الشرعية السياسية أكبر من هذا الذى يمتلكه العسكر فى الظروف العادية، حتى لو غضضنا الطرف عن تآكل شرعيتهم السياسية.

 

وأمام هذا الموقف كان المفترض أن يقوم الحكام بتسليم السلطة أو القدر الأكبر منها للبرلمان المنتخب باعتباره الجهة الشرعية، وذلك لاعتبارات عدة، أولها القاعدة الديمقراطية القائلة بسيادة المنتخب على غيره، وثانيها انتفاء الضرورة التى أتت بالعسكر للحكم بانتخاب جهة تشريعية ممثلة، وثالثها الحاجة المتزايدة لجهة تمتلك الشرعية الديمقراطية لإدارة البلاد فى ظل تآكل شرعية الحكام، ورابعها أحكام الإعلان الدستورى الذى ينص على أن «يتولى مجلس الشعب فور انتخابه سلطة التشريع، ويقرر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية» (مادة 33)، ومراقبة الأعمال تعنى مساءلة الوزراء وتقديم الاستجوابات وحق سحب الثقة، وهو الجانب السلبى لحق تشكيل الحكومة فصار مكفولا للبرلمان.

 

إلا أن الحكام المؤقتين آثروا التمسك بالسلطة، والالتفاف على الديمقراطية عن طريق تشكيل مجلس استشارى غير منتخب، مع تكليفه بمهام غير مصحوبة بصلاحيات حقيقية، وجلها يتضمن تجاوزا لإرادة الشعب، ويساهم فى تعميق القلق من سعى العسكر التدخل فى صياغة الدستور الجديد للبلاد.

 

فأما أول تجاوز للإرادة الشعبية فهو جعل الانتخابات الرئاسية لاحقة لكتابة الدستور، وذلك بالمخالفة لنتائج الاستفتاء، إذ تنص التعديلات على أن «يعرض رئيس الجمهورية مشروع (الدستور)، خلال خمسة عشر يوما من إعداده، على الشعب لاستفتائه فى شأنه» (مادة 189)، وهو ما يعنى أن انتخاب الرئيس يسبق الانتهاء من وضع الدستور، وتعديل المواد المتعلقة بالرئاسة (75، 76، 77، 139) يعضد ذلك، إذ بالحديث عن أسبقية الدستور تصير المواد لغوا ينبغى تنزيه المشرع عنه لافتراض أنه يقول كل ما يقصد ويقصد كل ما يقول.

 

وهذا الاختلاف فى ترتيب الإجراءات له عواقب كبيرة، إذ بقاء العسكر فى السلطة وقت كتابة الدستور يمنحهم القدرة على التدخل فى صياغته بما يضمن للمؤسسة العسكرية وضعا مميزا ينتقص من سيادة الشعب على مؤسساته، وثمة مؤشرات تعمق هذا القلق، أهمها (وثيقة السلمى) التى صدرت فى هذا الشأن قبل أسابيع، وبالأخص المادتين (9) و(10) منها، والقراءة فى تجارب خروج العسكر من السلطة تقول إنهم يسعون دوما لكتابة الدستور قبل خروجهم من السلطة، وأنهم متى نجحوا فى ذلك صار خروجهم منها صوريا أو جزئيا (كما هو الحال فى تشيلى)، وأن خروجهم الكامل من السلطة يبقى مقترنا بأن يكتب الدستور بعد خروجهم من المشهد.

 

يرتبط بذلك التجاوز الثانى للإرادة الشعبية، والمتمثل فى مناقشة معايير اختيار الجمعية التأسيسية، وقد نصت التعديلات الدستورية على أن «تتولى جمعية تأسيسية من مائة عضو ينتخبهم أغلبية أعضاء المجلسين من غير المعينين فى اجتماع مشترك، إعداد مشروع الدستور فى موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها» (الفقرة المضافة على المادة 189)، وأن «يجتمع الاعضاء غير المعينين لأول مجلسى شعب وشورى تاليين لإعلان نتيجة الاستفتاء على تعديل الدستور لاختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة اشهر من انتخابهم» (مادة 189 مكرر) وهو ما ينزع عن الجهات الأخرى ــ سواء المجلس الاستشارى أو غيره ــ أى سلطة لفرض معايير تتعلق بهذه الجمعية.

 

والاعتراض على هذا التدخل من المجلس الاستشارى إنما يستند لركائز ثلاث، أولاها أن فيه خروجا واضحا عن الإرادة الديمقراطية، وهو خطأ فى ذاته، ثم إنه يفتح أبوابا لأن تنقض كل جهة الديمقراطية متى تمكنت من ذلك إن لم توافق هواها فى وقت نحتاج فيه لترسيخ الالتزام بها، وثانيتها أن التدخل لن يحمى التوافق المجتمعى كما هو مزعوم وإنما سيحمى دور العسكر، ولعل ما صدر فى وثيقة السلمى أيضا (بأن جعل النسبة الأكبر من أعضاء الجمعية التأسيسية لجهات لا تتمتع باستقلال عن السلطة، ثم إعطاء العسكر حق النقض فيما يتعلق بمضمون المواد الدستورية المقترحة) يشير لبعض ذلك، وثالثتها أن صياغة الدستور التوافقى ممكنة بعيدا عن تدخل العسكر المباشر أو غير المباشر، وثمة بوادر طيبة فى هذا الاتجاه صدرت من متصدرى الانتخابات البرلمانية، يمكن البناء عليها والتحاور حولها بعيدا عن سطوة أصحاب السلطة.

 

تقديرى أن التوافق المبتغى فى صياغة الدستور ينبغى أن يتم بعيدا عن العسكر، وأن الخطوة الأولى فى سبيل ذلك ينبغى أن تصدر عن أصحاب الكتل البرلمانية الأكبر للآن، إذ عليهم طمأنة المجتمع بشكل أكثر تفصيلية فيما يتعلق برؤيتهم للدستور، وعلى غيرهم طمأنتهم أنهم لن يضطروا للدخول منفردين فى مواجهة تسعى لانتزاع السلطة للجهات المنتخبة.

 

وأما المجلس الاستشارى، فقد كانت الحاجة إليه قائمة قبل شهور، ثم تأخر عنها فلم يعد لوجوده معنى وقد تشكلت شرعية ديمقراطية جديدة، وتشكل المجلس الاستشارى مع ذلك ليضفى شرعية على من لا شرعية له، ويعطى فرصة للعسكر لتمديد بقائهم واستمرار نفوذهم.

التعليقات