(الديوان التائه) - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 10:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(الديوان التائه)

نشر فى : الإثنين 17 مايو 2010 - 9:59 ص | آخر تحديث : الإثنين 17 مايو 2010 - 7:44 م

 أخيرا صدرت منذ أيام أول طبعة مصرية للأعمال الكاملة للملاح التائه الشاعر الكبير على محمود طه تحقيق وتقديم محمد رضوان، وهى تتألف من ثلاثة أجزاء تضم الدواوين الشعرية الخمسة، والملحمة الشعرية «أرواح وأشباح»، والمسرحية الشعرية «أغنية الرياح الأربع» بالإضافة إلى مجموعة القصائد التى ترجمها شعرا، كما تضم لأول مرة قصائده المجهولة التى نشرت قبل صدور ديوانه الأول «الملاح التائه» عام 1934، وبعد صدور ديوانه الأخير «شرق وغرب» عام 1947.

الغريب أن كل ديوان من دواوينه قد طبع عند صدوره ما بين خمس أو ست طبعات، وبعد أن نفدت اختفت أعماله إلى أن طبع ديوانه الكامل فى سوريا عام 1962بتقديم لسهيل أيوب.

ويكفى أن تعرف أن طه حسين عندما قرر العودة لحديث الأربعاء بعد توقف دام عشر سنوات، اختار أن يكون حديثه الأول عن الديوان الأول لعلى محمود طه وهو ديوان «الملاح التائه» وقد آخذه حينا وأثنى عليه أحيانا، لكنه ختم حديثه عن الشاعر المهندس قائلا: «وأنا واثق بأن شاعرنا إن عنى بلغته ونحوه وقافيته وتوخى ما ألف من خفة التصوير ورشاقته ودقته،فسيكون له شأن فى تاريخ الشعر العربى الحديث».

وقد صدقت نبوءة طه حسين الباحث الأكاديمى الذى لم يغفل عن أداء دوره فى المتابعة النقدية الواعية لشباب المبدعين، حيث وقع فى غرام على محمود طه كثير من الشعراء المحدثين اعترافا بموهبته ودوره المفصلى فى تاريخ حركة الشعر العربى الحديث، وقد كان شاعرنا يدرك حقيقة هذا الدور تمام الإدراك حيث سارع للانضمام لجماعة أبولو ليمثل مع رفاقه حلقة وصل بين الأدب العربى والأدب الغربى، وجسر عبور من القالب التقليدى للقصيدة العربية شكلا ومضمونا إلى إرهاصات الشعر العربى الحديث، حيث يقول:
أنا من زعمتم، غير أنى شاعر أَرْضَى البيان بما يصوغ ويرسمُ
إنى بنيت على القديم جديدة فرفعت من بنيانه ما هدموا

والبيت الثانى يذكرنا بمطلع قصيدة الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى فى هجائه للأستاذ العقاد، حيث يقول:
من أى بحر عصى الريح تطلبه إن كنت تبكى عليه، نحن نكتبه
فقد أثر على محمود طه فى الشعراء المحدثين تأثيرا كبيرا، بل فى الجيل السابق عليهم أيضا من الشعراء التقليديين،حيث تحول ــ مثلا ــ مطلع قصيدة على محمود طه: «يا حبيبى أقبل الليل ونادانى الغرام» عند الشاعر الكبير أحمد رامى إلى «يا حبيبى أقبل الليل ونادانى حنينى» فى قصيدته التى تغنت بها أم كلثوم فى نهاية الستينيات.

وقد أسهم تلحين وغناء محمد عبدالوهاب لقصائد الجندول، وكليوباترا، وأنشودة الجهاد «أخى جاوز الظالمون المدى»، فى تحقيق قدر كبير من الشهرة للشاعر الذى قال فى الجندول:
ذهبى الشَعْرِ ، شرقىُّ السماتِ
مرحُ الأعطافِ ، حلو اللفتاتِ
كلما قلت له: خذ.قال: هاتِ
يا حبيب الروح يا أنس الحياةِ
وأصر عبدالوهاب على أن يغنيها «ذهبى الشِعْرِ» بدلا من «ذهبى الشَعْرِ» تقديرا للشاعر فى رواية، وتعظيما للأجر الذى حصل عليه فى رواية أخرى.

وقد اشتركت قصائد على محمود طه مع الشعر الرومانسى فى خصائصه الرئيسية،مثل الشعور الدائم بالوحدة والاغتراب المشوب بالحزن،حيث يقول فى «الملاح التائه»:
صحراء الحياة كم همت فيها شارد الفكر، تائه الخطواتِ
سرت فيها وحدى، وقد حطم المقدار فى جنح ليلها مشكاتى
ولكم أرمد الهجير جفونى ورمتنى الحرور باللفحاتِ
لم أجد لى فى واحة العيش ظلا أو غديرا يبل حر لهاتى
ومثل الاهتمام بوصف الطبيعة، حيث يقول بقصيدة «فى القرية»:
غنى بأودية الربيع وطوفى وصفى الطبيعة يا فتاة الريفِ
ولَّى خريف العام بعد ربيعه ولكم ربيع مر بعد خريفِ
يا أخت طالعة الشموس تطلعى للورد بين مفتح وكفيفِ
والطير هدار، فأفقٌ راكدٌ يرمى الغمام به، وأفق يوفى

ومثل الإفراط فى تصوير العلاقة العاطفية بالمرأة، فى جانبها اللاهى حينا، حيث يقول:
فقالت: ما حياتك؟ قلت حلم من الأشواق أوثر أن أطيله
حياتى قصـة بدأت بكأس لها غـنيت، وامرأة جميلة
وفى جانبها العفيف حينا آخر، حيث يقول:
أقبلت أم أمعنت فى الإعراضِ إنى بحبك، يا جميلة، راضى
ألقاك، لست أراك إلا فتنة علوية الإشراق والإيماضِ
كم رحت أغمض ناظرى من دونها فأراه لا يقوى على الإغماضِ
واعتضت باللذات عنك فلم تجد روحى كلذة حلمك المعتاضِ

على أن هذا العشق يتجاوز لديه حدود الهم الخاص أحيانا مرتقيا إلى آفاق الهم العام، حيث يقول فى قصيدة «مصر»:
فيا لك مصر! ما لجلال أمس عَلَتْهُ غبرة وطوته حُجْبُ
أكان دم الفدائيين صدقا وأصبح وهو بعد الأمس كذبُ
عجائب لم تقع إلا بمصرَ وأحداث لها يطيش لبُّ
أنلعب والزمان يقول جـدُّوا ونرقد والحياة تصيح هبُّوا؟
سألتكم اليمين وحب مصرٍ ألم يخفق لكم بالحب قلبُ؟!

وقد يتجاوز الأمر حدود عشق الوطن إلى فضاء القومية العربية أيضا، حيث يقول فى قصيدة «إلى أبناء الشرق»:
فلسطين ما لى أرى جرحها يسيل ويأبى الغداة اندمالا
هى الشرق، بل هى من قلبه وشائج ماضٍ تأبَّى انفصالا
تبارى لها المسلمون احتشادا وهب النصارى إليها احتفالا

وقد حاول على محمود طه فى مشروعه الشعرى تجاوز آفاق التجربة الرومانسية الغنائية برمتها، منتقلا إلى ساحة الدرامية عبر ملحمة «أرواح وأشباح» ومسرحية «أغنية الرياح الأربع»، وإن بقى له من هاتين التجربتين سبق الريادة وشرف المحاولة أكثر من موضوعية الإنجاز.

لقد وهب على محمود طه حياته للشعر، حتى إنه عندما تأخر عنه الوحى عشرين يوما مازحه صديقاه بندوة الأهرام توفيق دياب وأنطون الجميل ببيت من الشعر،حيث قال الأول: «يا وحى شعرى أين أنت؟» وأكمل الثانى «فى أى زاوية ركنت؟»، فأكمل شاعرنا قصيدة طويلة قال ضمنها:
هل رحــت فى إغماءة؟ أم بالمخدر قد حقنت؟
أم نمت ،أم نام الزمان؟ أم اعتقلت،أم انسجنت؟
أم خفت من قلم الرقيب فما أشرت وما أبنت؟
أم فى البنوك لأزمة حلت بأهلك قد رهنت؟
يا وحى شعرى! ما سكوتك فى الخطوب؟ ألا حزنت؟
أفقدت رشدك، أم شعورك بالحياة؟ إذن جننت!

هذا هو حال على محمود طه وأصدقاؤه عندما غاب عنه وحى الشعر لمدة عشرين يوما، فكيف كنا نسمح بغياب ديوانه عن مصر كل هذه السنوات؟!

التعليقات