الساحر الأسمر - داليا شمس - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 9:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الساحر الأسمر

نشر فى : الأحد 17 أغسطس 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الأحد 17 أغسطس 2014 - 8:25 ص

طارت عبوة الجيلاتى البلاستيكية الفارغة فى الهواء وهو يتدرب مصادفة بشارع الشانزليزيه، فتغيرت حياته... إذ ظن المارة أنه قد وضعها إلى جواره لكى يتركوا فيها ما يجودون به من نقود، كدليل استحسان وتقدير لما يؤديه من ألعاب أكروباتية. امتلأت العلبة عن آخرها، وفهم أن هذه العملات المعدنية أصبحت كلها من نصيبه، نظير لهوه بالكرة على الطريق العام... هكذا تحول إيا تراورة ــ وهذا اسمه ــ من مجرد لاعب كرة أفريقى يحلم بالاحتراف إلى أحد معالم العاصمة الفرنسية. تجده يوميا عند سلالم كنيسة القلب المقدس الشهيرة، يحلق فى السماء أو يتدلى من عمود إنارة والكرة لا تفارق قدمه، حتى عندما يقفز رأسا على عقب، وينقلب عدة مرات فى الفضاء، أعلى السور.. على حافة الهاوية. العرض الذى يقدمه يستهوى زوار المكان، فتنهمر عليه العملات بعضها من فئة الخمسين يورو أو أكثر... فقد اكتسح برامج المواهب والأرقام القياسية فى التليفزيون الفرنسى قبل عدة سنوات، ودخل موسوعة جينيس، بل ازدادت شهرته حتى دعى إلى الإليزيه لمقابلة الرئيس السابق شيراك عام 2006 بمناسبة احتفالات الكريسماس ونهاية السنة. أما أخيرا فى شهر مايو الماضى، فقد ظهر جنبا إلى جنب مع اللاعب ميسى فى كليب شاكيرا الذى صاحب كأس العالم فى البرازيل، والذى سجل أكثر من خمسة ملايين مشاهدة فى أقل من أربع وعشرين ساعة.

شاكيرا قدمت هذه الأغنية لدعم برنامج الغذاء العالمى وتوفير وجبات مدرسية لأبناء المناطق الفقيرة، أما إيا تراورة، الذى جاء من غينيا إلى باريس فى مطلع الألفية الثانية، فقد خصص معظم مكاسبه على مر السنوات لتأسيس نادٍ رياضى فى العاصمة كوناكرى، منذ سنة 2006، بهدف تدريب صغار الموهوبين فى بلاده. النادى الذى يحمل اسمه الأول ــ إيا ــ لم يعتمد على راعٍ رسمى، بل اتخذ شكل الجمعية الرياضية، وهو أحد الأنماط الأربعة المنتشرة فى أفريقيا السوداء، عندما يتعلق الأمر بنوادى كرة القدم، فهى إما تقام على أساس الطوائف، أو أساس فيدرالى (نموذج الجمعية) أو نمط رئاسى، أو تسجل كشركة. وكل هذه الأشكال بالطبع تعكس التداخل بين كرة القدم والسياسة فى القارة السوداء، فهى تستخدم أحيانا لتوحيد الطوائف والإثنيات المختلفة أو لإبراز صورة البلاد خارجيا، أحيانا تحت إشراف مؤسسة الرئاسة، أو لجعل الناس تتقبل الأوضاع الضاغطة بمجرد تحقيق بعض الانتصارات فى المستطيل الأخضر... المهم أن الأنظمة الشمولية التى قامت بعد الاستقلال، استغلت اللعبة الشعبية كما استغلها المستعمر «الأبيض» من قبل عندما أدخلها إلى القارة للتحكم فى الجموع وتشذيب أخلاقها، فهى تعلمهم النظام والانضباط والسيطرة على النفس... وبالتالى استمر اهتمام القادة الأفارقة بها، بل وفضل بعضهم بناء استاد ضخم عن إنشاء مدارس للأطفال، فاللعبة تجعل الناس تلتف حول العلم وتساعدهم فى بناء وحدة وطنية... وفرق كرة القدم القومية ساهمت فى انتقال هذه المجتمعات التقليدية إلى مفهوم الأمة... وظلت أفضل الأنباء التى تأتينا من أفريقيا تخص الكرة، حلم الفقير الدائم بالشهرة والترقى الاقتصادى والهجرة والاحتراف فى أوروبا... ووسيلته أيضا للهروب من طاحونة السياسة.

يروى إيا تراورة مثلا كيف كان يلعب الكرة «الشراب» فى شوارع العاصمة الغينية، وكيف اكتسب مهاراته من خلال اللعب ببرتقالة مقشرة تتدافعها أقدامه ورفاقه فى الحوارى والأزقة، وكيف كان يحلم بامتلاك كرة من الجلد عندما شاهد مارادونا على شاشة إحدى القنوات الفضائية لأول مرة. ظل يقتطع من قوته ويقوم بأعمال إضافية للحصول على واحدة، حتى ساعده والداه ماديا، وهما اللذان يعملان فى أحد أسواق باريس الشعبية. وعند انتقاله للإقامة معهما هناك، انضم إلى نادى «باريس سان جيرمان» حيث اعتمد كلاعب محترف، لكن انشغالاته المختلفة سواء باستكمال دراسته أو العمل مع أبيه فى السوق لكسب رزقه لم تجعله يتفرغ لتدريبات النادى فتم فصله. واضطر إلى ممارسة هوايته وعشقه الأول والأخير بطريقة أخرى، فظل يتدرب فى المترو والشارع والأماكن السياحية... الكرة لا تفارقه، وكذلك حلم الاحتراف رغم مرارة فى الحلق، فقد تجاوز سنه الثامنة والعشرين، ولربما فاته قطار الاحتراف... لكن لا شىء يعصى على الحلم. وهو كآلاف الشباب الفقير القادم من أفريقيا أو أمريكا اللاتينية يضع آماله على الساحرة المستديرة، يداعبها وتداعب هى حلمه، على أمل أن يصير مثل زيكو وروماريو ورونالدو الذين انطلقوا إلى القمة من حوارى ريو دى جانيرو وأحياء الفافيلا فى البرازيل... لأن كرة القدم ملك للفقراء، حتى لو كان كأس العالم من نصيب الأغنياء وأصحاب الملايين... وإن لم يحقق إيا تراورة حلم الاحتراف اليوم أو غدا، فقد يساعد أحد أبناء بلده فى الوصول إلى الحلم نفسه ــ بعد سنوات ــ من خلال ناديه الذى صار فخرا لأهل حى ماتوتو فى العاصمة الغينية. إيا، جزء من جغرافيا مدينة النور المعاصرة، وشاهد على علاقة المستعمِر بالمستعمَر.

التعليقات