هى فوضى لكن حلوة! - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هى فوضى لكن حلوة!

نشر فى : السبت 6 أبريل 2024 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 6 أبريل 2024 - 9:30 م
يحب القاهرة لأنه ولد فيها ولم يعرف سواها. كل حاجة فيها تجرى كيفما اتفق. تربى على بعد خطوات من النيل، وعندما كبر قطعها شرقا وغربا على دراجته البخارية، فحفظ حواريها وأزقتها وضواحيها وعشوائياتها، وقد اختار أهله أخيرا أن يشتروا شقة متواضعة على أطراف المدينة بما يتناسب مع وضعهم المالى. يحاول التأقلم مع الزحام، ينجح أحيانا، ويخفق أحيانا.. يقفز من أعلى الرصيف، ويتفادى الصدمات كأنه مزود بوسائد هوائية.. كما عود نفسه على الأبخرة وعوادم السيارات ورائحة احتراق النفايات.
يستغرب أن فنانات مثل أم كلثوم وشادية وهدى سلطان احتفظن بحلاوة أصواتهن رغم هذا الجو، ثم تأتيه الإجابة سريعا ومن دون تفكير: لم نكن قد بلغنا هذه الدرجة من التلوث وقتها. يتنفس جرعة من كوكتيل الغازات السامة ويتذكر ما قرأه قبل فترة على أحد مواقع الإنترنت حول تصدر القاهرة لقائمة أكثر دول إفريقيا تلوثا، إلى جانب لاجوس ونيروبى، عاصمتى نيجيريا وكينيا. أشارت تقارير مختلفة إلى سوء نوعية الهواء فى هذه المدن الثلاث على وجه التحديد، وبينت أن قياس درجة تركيز الجسيمات المسماه P.M. 2.5 وصل إلى 46 ميكروجراما لكل متر مكعب فى القاهرة، بينما لا يتعدى المستوى الذى حددته منظمة الصحة العالمية 5 ميكروجرامات، ما يزيد من مخاطر اعتلال القلب والرئتين والإصابة بالأورام والاكتئاب والقلق. ربما كان هذا هو أحد مبررات توتر من يقابلهم فى الشارع، إذ يحتدم النقاش بينهم لأتفه الأسباب، وتعلو الأصوات وتتشابك الأيدى، وهو يمر بهم مرور الكرام.
• • •
يقال إن المدينة تخاطب ساكنيها، ونحن أيضا نتبادل معها الحديث بمجرد أن نعيش فيها ونتنقل ونراقب ما حولنا. نتابع نموها المتسارع: مراكزها صارت كثيرة ومتبدلة وأوجهها باتت مشوشة ومختلطة، فهناك تعايش مزعج بين البنايات الشاهقة والمراكز التجارية التى تكلفت الملايين، وبين جيوب الفقر ومدن الصفيح، وهو ليس بجديد بل امتد لسنوات وعلى الأغلب سيستمر.
استطاع هو أن يجد لنفسه مكانا وسط كل هذه الفوضى، أن يخلط عن وعى الأماكن الواقعية مع شوارع لا وجود لها سوى فى خياله. استوعب فكرة أن هذه المدينة مكان يحوى الزمان، مكان ينطوى على التاريخ وتفاصيل المجتمع والعلاقات الإنسانية، لكنه لا يستطيع أن يتقبل ألا تصير العاصمة القاهرة وأنها تمر بفترة عصيبة، بمرحلة مفصلية فى حياتها، لذا لابد أن يكون كلامه موزونا. شاء القدر أن يكون شاهدا على هذه التطورات. يخاف أن يرى مجدها إلى زوال أو أن يقلل أحد من شأنها. ثم يطمئن نفسه قائلا إنها العاصمة التى نص عليها الدستور وإنها قادرة على ابتلاع ما سواها ومسايرة الظروف.
عليه أن يعترف بحبه لها. علاقة من الحب والكراهية بسبب تعلقه الشديد بها. شاهد كثيرا هذه النوعية من العلاقات فى السينما وقرأ عنها فى الروايات، ولم يكن يتصور أن يقع فى شركها. تعود على وجودها فى حياته بشكل مرض. يعلم أنها تضره أحيانا، تؤذيه كثيرا، لكنها تنسيه الدنيا، يتوه فيها وتحير عقله. هو نوع من أنواع الإدمان الذى يجعله يحبها بعنف ويكرهها، وقد تتأرجح مشاعره من لحظة لأخرى تبعا للمواقف التى يتعرض لها. شجار أفضى إلى ضرب، يتبعه رقص بالعصا فى إحدى الحارات بصحبة أجدع ناس، ولقمة هنية تكفى من الحبايب مائة.
• • •
يقف فى أعلى نقطة خلف أسوار القلعة، ينظر إليها من خلال غلالة من الأتربة والعوادم. أقدم أجزاء القلعة شيدها صلاح الدين قبل قرون، وقد كان رمزا لمقاومة التدخل الأجنبى بعد انتصاره على الصليبيين ــ هكذا رأى فى الفيلم الشهير الذى أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته الفارس الهمام أحمد مظهر. لكن من أتم فعليا بناء العديد من أجزاء القلعة كان «قراقوش» أحد أعوان صلاح الدين والذى شغل بعد وفاته منصب الوصى على مصر للسلاطين الأيوبيين حتى أجبر على التنازل. انتشرت النوادر والطرائف حول ظلمه، فصار رمزا للاستبداد الغبى، وكتب عنه المؤرخ أسعد ابن مماتى مؤلفه الشهير «الفاشوش فى حكم قراقوش»، ما ساهم فى ترسيخ صورة شابها على ما يبدو بعض الافتراء.
ظل يتأمل دراما المكان والحكام على هذا النحو حتى غزا القلعة حشد من العمال الذين أتوا خصيصا لاستكمال تحضيرات السحور الخاص الذى يقيمه أحد رجال الأعمال لأصدقائه ومعارفه. أراد صاحب الحفل ــ الذى سخى بماله ــ أن تكون سهرتهم فى أحضان التاريخ وأن يطلوا من بعيد على القاهرة الغارقة فى مشاكلها، دون أن يتورطوا فيها كما يفعل صاحبنا. شعر حينها هذا الأخير أن الحب لا ينتهى، لكن الصبر قد ينفد. أتعبته محاولات التمسك بمدينته وإحياء غرام أشقاه.
التعليقات