أقماع سكر من القدس - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 8:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أقماع سكر من القدس

نشر فى : السبت 30 مارس 2024 - 5:40 م | آخر تحديث : السبت 30 مارس 2024 - 5:40 م
تناقلت جدات العائلة عبر العصور ميراثا من الحكايات يمزج بين طرائف يتعلق بعضها بأقماع السكر التى لا تعرفها الأجيال الحالية وبين مغامرات السلطان بيبرس. خلال سنوات الطفولة لم يفهم الصغار أن ثمة علاقة وثيقة بين الشيئين، وحين كبروا اكتشفوا أن هناك ارتباطا تاريخيا يجمعهما وأن المقولات الرائجة على لسان جدتهم الكبرى حين رددت وهى تنفث دخان السيجار أنها ابنة شاهبندر التجار لم تكن هراء، بل هى واقع لا يحتمل المزاح. روت الأم عن جدتها، وهذه الأخيرة عن أمها، أن سيدة عجوز، هى من جاءت بهم جميعا إلى الدنيا، كانت تصول وتجول فى البيت الكبير تشعل مصابيح الزيت وتبلل أقماع السكر بالمياه وتحتسى شرابها حتى «يروق دمها» ويذهب عنها ما يكدر صفوها. صارت جملة «أبل وأشرب» شائعة فى قاموس العيلة، فهذه الجدة الكبرى عودت أبناءها أن يكسروا قالب السكر المخروطى الشكل إلى قطع صغيرة ويطحنوه بإيد الهون النحاسى ويخلطوه بالمياه وأحيانا بعصير الليمون وخلافه كى يلطفوا حرارة الجو ووطأة الأحداث. وحين كانت تتوجه لأداء فريضة الحج فى ظروف مختلفة تماما عن أيامنا كان قُمع السكر الممزوج بالليمون هو رفيق دربها الذى يقيها من الإصابة بالجفاف وأدوار البرد، خاصة وأنها كانت قليلة الثقة بالأدوية والنباتات المجهولة لديها، فحرصت فى كل سفرة من سفراتها أن تحمل معها مجموعة من العقاقير والأعشاب، تضعها فى صرر أو زجاجات صغيرة تمهيدا للاستخدام الفورى عند اللزوم.
• • •
موت ابنها المفاجئ جعلها تشعر أحيانا كأن حجرا ثقيلا على صدرها، وكلما ازداد شوقها إليه كانت تذهب إلى المطبخ «تبل وتشرب»، ثم تحكى للأحفاد حدوتة من حواديت الظاهر بيبرس بعد أن تحول على لسانها إلى الشاطر بيبرس الذى استقبله الناس بحرارة وحفاوة بالغتين فى بلاد الشام لأنه شن غارات ضارية على معاقل الصليبيين واستولى على العديد من المدن الفلسطينية الساحلية وتوغل فى الشمال. وبعد معركة عين جالوت التى وقعت فى رمضان عام 1260 ميلاديا، وانتصر فيها المماليك على المغول، تم لهم السيطرة على فلسطين وتوجهوا نحو القدس، وتولى الظاهر بيبرس أمرها واهتم بتعميرها وحمايتها وتخفيف المعاناة على سكانها. وكان من أبرز ما قام به بعد زيارة القدس فى العام 1262 أن جدد كل ما تهدم من قبة الصخرة، وأنشأ خانا للسبيل نقل له بابا خاصا من دهليز للخلفاء المصريين بالقاهرة، كما بنى مسجدا وطاحونا وفرنا وبستانا.
بيبرس صار بطلا لأساطيرها، وقد تبنتها جميعا بوصفها تمت له بصلة قرابة غير واضحة المعالم. تحكى عنه وعن أشجار تطرح اللوز والمشمش معا، وصغار العائلة فى حالة استمتاع وانبهار. وغالبا حين لا ينام أحدهم، يطلب مقابلا إضافيا، فتحكى له الجدة حدوتة أخرى، ويجب أن تكون طويلة.. بعد أن عم البيت الهدوء التام وصار مغلفا بالصمت. تتطرق مثلا هذه المرة إلى تاريخ أسرتها وعلاقتها بالظاهر بيبرس رابع سلاطين مصر من المماليك، وكيف جاء أبوها فى عصره إلى القاهرة وتداخلت مصائرهما بسبب علاقات النسب، وصار غالبا شاهبندر التجار أو على الأقل من وجهاء المدينة. وتقول جملة أخرى عابرة من جملها المأثورة «شورنا عند كبيرنا».
• • •
والدها عمل بتجارة السكر فى القدس خلال فترة حكم الصليبيين التى استمرت زهاء قرنين، من 1099 إلى 1291. تنامت ثروته وخبراته، فقد كان تجار مملكة القدس اللاتينية يكسبون أموالا طائلة من جراء فروقات العملات وأوزانها. كانت فلسطين مفترق طرق للتجارة، وانخرطت القدس فى تجارة الحرير والقطن والتوابل، فضلا عن منتجات لم تكن معروفة من قبل لدى أوروبا مثل السكر.
شملت حدود مملكة القدس جميع أراضى فلسطين التاريخية، إضافة إلى لبنان، وأجزاء من الأردن وسوريا وصولا إلى سيناء، وبلغت ذروة نموها فى منتصف القرن الثانى عشر، وتوالى على حكمها ثلاثة وعشرون ملكا وملكة من الكاثوليك عقدوا تحالفات مع ممالك صليبية أخرى فى المشرق، حتى هزمهم صلاح الدين واستولى على القدس ومدن أخرى عام 1187. فى هذه الأثناء كانت عائلة الست دولت تُصدّر السكر إلى أوروبا، فقد أدخل العرب زراعة قصب السكر إلى فلسطين وما جاورها، وازدهرت صناعته فى العصور الوسطى، نظرا لتوافر كميات المياه التى يحتاجها للرى ولأغراض التشغيل، لذا ارتبطت معاصر السكر بينابيع جارية. وانتقلت بعدها تقنية الصناعة إلى أوروبا فى الفترة الصليبية.
صار العالم يعرف أقماع السكر التى كنا نراها فى بلدان مختلفة حتى منتصف القرن التاسع عشر، ومازالت موجودة فى مناطق بعينها ولكن فى إطار ضيق. مع الفتوحات الإسلامية أخذ العرب عن الفرس صناعة قوالب السكر الصلبة، وانتشرت فى مصر وبلاد الشام. كانت طريقة التحضير تتم بغلى عصير القصب حتى يصبح كثيف القوام، ثم يصب فى قوالب نحاسية مخروطية، ويترك ليبرد فيخرج منها السكر المتجمد ويلف بالورق ويعلق فى محال البقالة ويطحنه الناس فى المنازل لاستهلاكهم اليومى.
ظلت الست دولت تحب أقماع السكر وتشتريها هى وأهل بيتها من بعدها، فقد صارت هذه الأقماع تراثا عائليا، تدور حوله الكثير من الحكايات والروايات، وحتى الأجيال التى لم تصادف قمع سكر فى حياتها سمعت عنه على الأقل وعن الظاهر بيبرس الذى تربوا على حواديته، من أم إلى أم. ومن فرط اعتقادهم فى وجود صلة قرابة تربط بينهم وبينه، قرر البعض أن يدققوا المعلومة ويحاولوا توثيقها على أمل مطالبة الأوقاف بحقهم فى التركة أو الحصول على ما قد يبدل حالهم إلى الأبد، وذلك فى زمن شح فيه السكر.. يقف الناس طوابير طويلة للحصول عليه فى مصر، ويتهافت الفلسطينيون على حفنة منه يحلون بها أيامهم التى صارت أمر من العلقم.
التعليقات