المحاكاة: هل تنقذ العالم؟ - محمد زهران - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 3:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المحاكاة: هل تنقذ العالم؟

نشر فى : الجمعة 17 نوفمبر 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : الجمعة 17 نوفمبر 2023 - 7:35 م
عندما داهم فيروس الكوفيد العالم، وبدأ سباق محموم للبحث عن مصل كانت الخطوة الأولى هى التوجه لا للمستشفيات، ولكن لأجهزة الحاسبات فائقة السرعة. تلك الأجهزة تم استخدامها لتطوير واستخدام نظم محاكاة للمركبات الكيميائية. عن طريق تلك النظم تم إيجاد عدة أنواع من المركبات الكيميائية التى قد تصلح لتكون مصلا. عند هذه النقطة بدأ العمل فى المستشفيات وشركات الأدوية.
مقالنا اليوم عن تلك البرمجيات التى نسميها بنظم المحاكاة وهى من أثمن وأهم البرمجيات التى قد يكون لها أكبر الأثر فى تحسين الحياة على كوكب الأرض لكنها الجندى المجهول فى ساحة البرمجيات لأنه يتم تطويرها على يد خبراء ليستخدمها خبراء، لذلك رجل الشارع لا يعرف عنها الكثير لكنه بالتأكيد يتأثر بنتائجها فى حياته اليومية.
...
نظم المحاكاة هى برمجيات تحاكى نظاما ما فى حياتنا، مثلا نظام محاكاة يحاكى تحرك وتفاعل الذرات مع بعضها، أو نظام محاكاة يحاكى تفاعل النجوم والكواكب مع بعضها، أو نظم محاكاة تحاكى انتشار الحرارة على الأسطح، وهكذا. فى الماضى كانت تلك النظم تستخدم فقط لمحاكاة الأنظمة الفيزيائية أما الآن فأصبحت تستخدم تقريبا فى كل المجالات بما فيها العلوم الإنسانية. فقد نجد أنظمة محاكاة تحسب سرعة انتشار الشائعات أو تأثير إشاعة ما على أسعار الأسهم.
تلك البرمجيات لها أهمية كبير، فمثلا:
• أنها تجعلنا نحصل على نتائج أسرع بكثير مما إذا قمنا بالتجربة نفسها فى المعمل، وبتكلفة أقل.
• فى بعض الأحيان لا نستطيع أصلا القيام بالتجربة فى الحقيقة دون آثار ضارة مثل محاكاة انتشار شائعة ما.
• أيضا تساعد نظم المحاكاة فى التنبؤ بنتيجة مستقبلية مثل تعديل الاتجاه المرورى فى شارع ما على عدد الحوادث والاختناقات المرورية أو التنبؤ بحالة المناخ بعد عدة شهور أو سنوات إذا ظل التلوث والانبعاث الحرارى على نفس المنوال الحالى.
ولأن تلك الأنظمة مفيدة ومعقدة فى بنائها فإنها تكون غالية الثمن جدا. فماذا نحتاج إذا أردنا بناء نظام محاكاة لنظام معين كيميائى، أو فيزيائى، أو متعلق بالعلوم الإنسانية، أو الاقتصادية؟
...
نظام المحاكاة هو فى الأصل نوع من البرمجيات، وحتى نبنى ونطور هذا النوع من البرمجيات نحتاج عدة عناصر:
• أولا نحتاج متخصصين فى النظم التى نبغى محاكاتها، فإذا كنا نبنى نظام محاكاة للشائعات فسنحتاج متخصصين فى علوم الاجتماع والنفس، وإذا أردنا نظم محاكاة لتفاعلات كيميائية فسنحتاج متخصصين فى الكيمياء... إلخ.
• ثانيا نحتاج مبرمجين على أعلى مستوى من الكفاءة لأن تلك البرمجيات معقدة جدا ولغات البرمجة وأساليب البرمجة العادية التى تُدرس فى الدورات التدريبية، بل وحتى فى بعض الجامعات لا تصلح.
• ثالثا نحتاج أجهزة حاسبات فائقة السرعة وبالتالى نحتاج مهندسى الحاسبات لبنائها وصيانتها. بدون تلك الأجهزة فقد تستغرق تلك البرمجيات سنوات قبل الوصول للنتيجة.
• رابعا نحتاج كمية كبيرة من المعلومات لأن نظام المحاكاة يبدأ من نقطة معينة. مثلا نظام المحاكاة للكواكب والنجوم يحتاج خريطة بأماكنها ومعلومات عن مكوناتها وكتلتها وسرعتها ودرجة حرارتها... إلخ.
• خامسا نحتاج علماء متخصصين فى الرياضيات لأن نظم المحاكاة هى تقريب للواقع عن طريق المعادلات الرياضية.
بعد كل هذا وبعد بناء تلك النظم يجب التأكد من أنها تعمل بكفاءة لذلك نحتاج إلى تجربتها على أنظمة نعرف بالضبط نتائجها. مثلا نعطيها معلومات عن الحالة الجوية حتى الأسبوع الماضى ونطلب محاكاة تقلبات الجو حتى أمس ونقارن نتائج المحاكاة بالحالة الحقيقية للجو.
بعد كل ذلك هل نثق فى نتائج تلك النظم؟
...
يجب أن نضع فى الاعتبار أن نظم المحاكاة مهما بلغت دقتها فإنها محدودة بمعرفتنا الحالية عن الكون من حولنا والقوانين العلمية التى تحكمه وهى معرفة قاصرة، ونظم المحاكاة محدودة أيضا بقوة الحاسبات فائقة السرعة التى نمتلكها حاليا. يجب ألا نُخدع بكلمة «فائقة السرعة» لأنها تطلق على الحاسبات السريعة فى كل عصر، فالحاسبات فائقة السرعة من أربعين سنة أبطأ من تليفونك المحمول حاليا، وحاسباتنا فائقة السرعة الآن ستُعتبر أضحوكة أمام الحاسبات التى ستوجد مع الأجيال القادمة. إذا يجب أن نثق فى نتائج نظم المحاكاة لكن بحذر وأن تكون هناك خطة للتعامل مع الأمر لو كانت النتائج غير دقيقة. قد يقول قائل: إذا ما الفائدة منها؟ الفائدة أنها تعطى نتائج أكثر دقة بكثير من أى عناصر بشرية، فإذا اعتمدنا على العنصر البشرى فقط سنكون متأخرين بخطوات أمام من يستخدم نظم المحاكاة، وإذا اعتمدنا فقط على نظم المحاكاة ووثقنا فيها ثقة عمياء فقد نواجه مفاجآت غير سارة. التكنولوجيا مفيدة، ولكنها أكثر فائدة إذا كانت تحت سيطرة البشر.
هل نستطيع الإفادة من تكنولوجيا المحاكاة فى مصر؟
...
نحن نمتلك فى مصر بعض الحاسبات فائقة السرعة، قد لا تكون من أسرع الحاسبات فى العالم لكنها مفيدة جدا إذا أحسنا استخدامها. قد يستخدمها الباحثون لعمل بعض التجارب من أجل النشر العلمى، لكن ماذا يحدث بعد نشر البحث؟ قد يحصل الباحثون على ترقية أو يتباهون بالبحث على مواقع التواصل الاجتماعى أو يحصل الباحثون الصغار على الدرجة العلمية التى يطمحون فيها، كل هذا جميل لكنه شخصى جدا. ماذا تستفيد البلد من ذلك؟ هناك جزء يدخل فى نطاق القوة الناعمة وهى المباهاة بعدد الأبحاث التى تخرج من عندنا مقارنة بدول أخرى. لكن هل فكرنا فى استخدام تلك الحاسبات فائقة السرعة فى إنتاج نظم محاكاة تساعد على تحسين الحياة للناس؟ هذه بعض الأمثلة لكنها غيض من فيض، هناك الكثير:
• محاكاة المرور فى المدن الكبرى، هذا يساعد على تحديد اتجاهات المرور فى كل شارع لتقليل الاختناقات المرورية والحوادث... إلخ.
• محاكاة التصاميم الكهربائية المتعلقة بالطاقة واستخداماتها حتى نحدد الأماكن التى تحتاج محطات توليد والأماكن التى يمكن أن تستفيد من الطاقة النظيفة وأفضل الطرق لنقل الطاقة من مكان لآخر بأقل التكاليف وبأعلى كفاءة... إلخ.
• نظم المحاكاة للتفاعلات الكيميائية والتى تعتبر من دعائم الصناعات الدوائية فى المقام الأول والصناعات الأخرى مثل سوائل التنظيف وأدوات التجميل... إلخ. يجب أن نتذكر هنا أن مارتين كاربلوس ومايكل ليفيت وآريه وارشل قد حصلوا على جائزة نوبل فى الكيمياء سنة 2013 لتطويرهم طرق لمحاكاة الجزيئات بدقة من الجزىء الواحد وحتى البروتينات.
نظم المحاكاة من تطوير واستخدام هو سلاح استراتيجى قوى لا تنتبه له الكثير من الدول.
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات