من ستيلتو إلى الخائن - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من ستيلتو إلى الخائن

نشر فى : الخميس 18 يناير 2024 - 8:20 م | آخر تحديث : الخميس 18 يناير 2024 - 8:20 م
أعرف أن أسرًا مصرية كثيرة ترتبط بالمسلسلات التلڤزيونية، وتداوم على متابعة ما تتيحه لها منصّات المشاهدة من وجبة درامية متنوعة المصادر واللغات، مع ميلٍ خاص نحو المسلسلات التركية. أما على مستوى أسرتي الصغيرة فلا يوجد مثل هذا الارتباط، فالأولوية هي للأخبار وأفلام زمان الأبيض والأسود عند البعض، ولمباريات كرة القدم والإسكواش عند البعض الآخر، لكن حين يحّل شهر رمضان نتفق على متابعة مسلسل أو اثنين. كانت هذه إذن هي القاعدة العامة حتى فاجأتني ابنتي المقيمة في كندا بزيارة في غير موعدها، وكان من عاداتنا السنوية حين نلتقي عندها أن ننتقي مسلسلًا نشاهده بعد عودتها من العمل، فليلُ كندا ممّل وفي بعض الأحيان نهارها أيضًا، أما هنا حيث الأقارب والزيارات والكرَم والزحمة والنميمة والسهر في أمسيات القاهرة الساحرة، فلا مكان للمسلسلات. هذا الوضع تغيّر في زيارة ابنتي الأخيرة لسببٍ غير مفهوم وأدعو الله ألا يدوم، ففي خلال أربعين يومًا هي مدة زيارتها تابعنا نحن الاثنتين مائة وخمسة وأربعين حلقة بالتمام والكمال، نعم مائة وخمسة وأربعين حلقة، من مسلسلين لبنانيين. وبدا الأمر كوميديًا إلى حد أننا كنّا نتناوب المشاهدة حتى ننجز، فأنام وتحكي لي، أو تخرج وأحكي لها!! أحد المسلسلين هو ستيلتو بمعنى حذاء نسائي له كعب كالسكين أو الخنجر وهو من تسعين حلقة، والآخر هو الخائن وعُرض منه حتى عودة ابنتي لكندا خمسة وخمسون حلقة. والآن وبعد هذا الماراثون الدرامي الطويل أحسست بالحاجة إلى أن أنظر للمرآة وأسألها كما فعل صديق عربي كبير أذهله التغيّر مائة وثمانين درجة في مواقف الناس وأفكارهم من حوله، فإذا به يقف يومًا أمام المرآة مستفسرًا بمنتهى الجديّة: بعدك لسه شفيق؟ فهل بعدي لسه نيڤين؟ وكنتُ قد لاحظتُ مع الوقت أن المسلسلين انطبعا علينا ابنتي وأنا إلى حد أنها إن وجدتَني شاردة سألتني باللهجة اللبنانية المحبّبة: شو بكِ مام؟ فأردّ عليها من نفس القاموس اللذيذ: حاچي قلق حبيبتي (بضغطة خفيفة على الياء الأولى في كلمة حبيبتي) ما بي شي. وهذه هي قوة الدراما وتأثيرها النفّاذ.

• • •

جاء اختيار المسلسلين ستيلتو والخائن بالصدفة البحتة، لكن مشاهدتهما على التوالي سمحَت باكتشاف الخط بل الخطوط الكثيرة الواصلة بينهما، وهي خطوط سأعرض لها بسرعة ثم أتوقّف عند قضية شدّتني في كلا المسلسلين، وهي قضية تأثير انفصال الأبوين على الأبناء. مبدئيًا فإن مخرج المسلسلين شخص واحد هو إندر إيمير، كما أن اثنين من أبطال ستيلتو كانا بطلين في الخائن، وهما قيس شيخ نجيب وريتا حرب، ثم أن التصوير في الحالتين تم في تركيا وإن تعامل المسلسلان على أن التصوير تمّ في جبل لبنان ثم أتت تفاصيل صغيرة لتؤكد عكس ذلك كأرقام السيارات مثلًا، والأهم أن فكرة المسلسلين واحدة تقريبًا، ففي ستيلتو مجموعة من صديقات الطفولة من طبقة موسرة بينهن علاقات معقدّة وغير سويّة، وفي الخائن مجموعة من الشبّان والشابات الأصدقاء الموسرين أيضًا، والعلاقات بينهم وإن كانت أسلس بالمقارنة بما كانت عليه العلاقات في ستيلتو، لكنها أيضًا لا يمكن وصفها بالعلاقات الطبيعية. وفي الحالتين يوجد زوج خائن وأحيانًا أكثر من زوج واحد خائن، وهذا يؤدي للانفصال وبالتالي تظهر مشكلة مستقبل الأبناء بعد الانفصال. لكن بالمقارنة فإن مسلسل الخائن يبدو نسبيًا.. نعم نسبيًا فقط أكثر تماسكًا من حيث القصة والحبكة الدرامية، بينما يقوم مسلسل ستيلتو على عدد لا نهائي من المؤامرات المفتعلة وغير المقنعة من كلٍ من الصديقات الأربع ضد الأخرى بما في ذلك التفكير، بل والشروع فعلًا في تدبير جرائم قتل بمنتهى البساطة والأريحية، وكأن الحذاء النسائي ذا السكين الذي يرمز له عنوان المسلسل لا يتوقَف عن الطعن أبدًا. مسلسل الخائن مأخوذ عن مسلسل تركي هو بدوره مأخوذ عن مسلسل أمريكي، أما مسلسل ستيلتو فمن تأليف لبنى مشلح.

• • •

في ستيلتو تنحاز الابنة المراهقة إلى أمها بعد اكتشافها خيانة أبيها وتتخّذ منه موقفًا شديد العدائية، لكن في الوقت نفسه تصطخب في داخلها مجموعة من المشاعر المختلطة تنفجر في وجهها في لحظة نطق القاضي بحكم الفصل بين أبويها، فهي مع تفهّمها الكامل لموقف أمها الرافض لاستمرار الحياة مع أبيها الخائن، إلا أنه حين تمّ وضع هذا القرار موضع التنفيذ انخرطَت الفتاة في بكاء عنيف. هذا الارتباك ظل ملازمًا لها وهي تراقب شخصية الأم تنمو وتتطوّر عندما تضطَر للخروج للعمل وتعتمد على نفسها، وبذلك ترى الماء في نصف الكوب، لكن كذلك يوجد في حياتها شئ ناقص بخروج الأب منها، كما تجد نفسها مسئولة بشكلٍ ما عن احتضان أخيها الصغير ورعايته، وذلك يجعلها تصطدم بالنصف الفارغ من كوب الطلاق. أما في الخائن فيتّم تسليط الضوء بشكل أكبر على وضع الابن المراهق بعد انفصال أمه عن أبيه. وبحكم علاقة الابن الوثيقة بوالده فإن ارتباك مشاعره واصطخابها يظهر بشكلٍ أكبر، فتارةً يقرّر العيش مع أمه وتارةً أخرى يذهب للعيش مع أبيه، وفي كل الأحوال لا يتوقّف عن الضيق بالمعارك والمكائد التي لا نهاية لها بين والديه حتى بعد أن استقّل كل منهما بحياته، وتبلغ ذروة معاناته في اللحظة التي يرى فيها بعينيه أباه وهو يحاول الإجهاز على أمه. هكذا تضاف إلى مشكلة الانفصال مشكلة أخرى لا تقّل خطورة تتعلّق بسوء إدارة الأبوين علاقتهما بعد الانفصال. هذا الوضع ينعكس بشكلٍ حادٍ على الابن، فإذا به ينحو منحىً عدوانيًا في علاقته مع زملائه، فيتشاجر ويضرب ويسرق ويكذب. وفي إحدى المرات التي ضيّقوا فيها عليه الخناق هرب من المدرسة وسار على غير هدى، وكان يمكن أن يضيع إلى الأبد.

• • •

قضية المعاناة النفسية للأبناء بسبب انفصال الأبوين قضية شديدة الحساسية وآثارها ليست بالضرورة آثار فورية، بمعنى أن الأبناء قد يبتلعون تفكّك أُسَرِهم كواقع فُرِض عليهم فرضًا ولا حيلة لهم في تغييره، لكن بمرور الوقت تبدأ تشوهاتهم النفسية في الظهور، فإن لم يتحّل الأهل بالحكمة والصبر والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة فإنهم يجنون على أبنائهم. من هنا يُحمد للمسلسلين إثارة هذا الموضوع المهم وإن بدا الإمساك بخيطه أمرًا صعبًا، فهناك خفة في المعالجة ومطّ وتكرار في الحوار والأحداث بما يناسب هذا الكم العجيب من الحلقات. أما الأناقة اللبنانية الفائقة التي تهتم بتفاصيل التفاصيل فكانت الأكثر إبهارًا وإثارة، ولازلتُ حتى الآن وقد قاربتُ على الوصول لنهاية السباق الدرامي- لا أعرف كيف يمكن لامرأة أن تعّد طبق السلاطة الخضراء وهي في قمة تألقها وكامل هندامها، ولا كيف تنتقل امرأة داخل بيتها من غرفةٍ لأخرى بالكعب العالي جدًا.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات