الغزو التكنولوجي والغزو الحربي - محمد زهران - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغزو التكنولوجي والغزو الحربي

نشر فى : السبت 18 فبراير 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 18 فبراير 2023 - 8:35 م

خسرت أمريكا الحرب فى فيتنام فى أوائل السبعينيات وخرج آخر جندى أمريكى من فيتنام سنة 1975، بدون الدخول فى تفاصيل كثيرة لكن القوة الخشنة لم تنفع الولايات المتحدة هنا والتى كانت تحارب حتى لا تنتشر الشيوعية وتقع دول أكثر فى شباك الاتحاد السوفييتى آنذاك والصين، هى حرب مصالح هنا لكن الغزو الحربى لم ينفع خاصة وأن الفيتناميين كانوا يحاربون من أجل تحرير أرضهم وهذا دافع أكبر من أية مصلحة. لنترك تلك الحرب جانبا ونتكلم عن موضوع آخر قد يبدو بعيدا لكن سنرى العلاقة لاحقا.

نحن الآن فى عصر الرقمنة حيث تسيطر أجهزة الكمبيوتر وبرمجياتها على حياتنا حتى وإن لم نلاحظ ذلك، فاستخدامك لوسائل التواصل الاجتماعى أو تليفونك الذكى أو حتى مشاهدة التليفزيون هو استخدام لأجهزة كمبيوتر متقدمة وبرمجيات معقدة، فى القلب من ذلك كله تقع ما نسميه بالعربية الرقائق أو (chips) وهى بمثابة العقل لأجهزة الكمبيوتر وبدونها لا نستطيع أن نطلق كلمة «الذكية» على أى شىء. بدأ تصنيع تلك الرقائق فى الولايات المتحدة الأمريكية مع نهايات الستينيات من القرن الماضى وبداية السبعينيات، كانت الكثير من تلك الدوائر الإلكترونية التى توضع داخل الرقائق تُجْمع باليد، كان حجمها كبيرا بالتالى يمكن للعامل أن يجمعها بيده، تطور الأمر طبعا بعد ذلك وأصبحت الرقائق صغيرة الحجم ويتم تصنيعها آليا.

المهم أنه فى ذلك الوقت وهو أيضا فجر ما سيعرف فيما بعد بوادى السيليكون فى ولاية كاليفورنيا بدأت شركات الإلكترونيات بتعيين عدد كبير من العاملين لتجميع تلك الدوائر الكهربائية وكان النصيب الأكبر من التعيينات فى ذلك الوقت للنساء لأن حجم اليد أصغر وبالتالى تتعامل بسهولة أكبر مع تلك المنتجات صغيرة الحجم. المهم بعد فترة رأت بعض الشركات الكبرى مثل (Texas Instrument) و (Intel) أن تتجه لبعض الدول الآسيوية وإنشاء مصانع هناك لأن اليد العاملة هناك رخيصة جدا بالمقارنة بأمريكا، وبدأت المصانع تظهر فى تايوان وماليزيا وسنغافورة وفيتنام إلخ وتم تعيين آلاف من العاملين فى تلك المصانع من أهل تلك البلدان، وهنا نربط ذلك بحرب فيتنام.

الغرض الأساسى لحرب فيتنام هو منع انتشار النفوذ الشيوعى المتمثل فى الاتحاد السوفييتى آنذاك والصين عن طريق منع الدول من الوقوع فى شباك الشيوعية، فيتنام هى إحدى هذه الدول وقد فشلت القوة الخشنة المتمثلة فى الحرب فى مهمتها لكن التكنولوجيا ومصانع الالكترونيات والرقائق الأمريكية نجحت فيما فشلت فيه الجيوش، نجحت فى ربط دول كثيرة محيطة بالصين بالولايات المتحدة الأمريكية عن طريق العمل فى تلك المصانع والحصول على أجر كبير بمقياس تلك الدول وصغير بمقياس أمريكا، وانتشار الرقائق وبالتالى أجهزة الكمبيوتر وبالتالى الرقمنة فى العالم كله هو غزو تكنولوجى أمريكى لدول كثيرة. طبعا هناك دول تمتلك تلك التكنولوجيا مثل اليابان والاتحاد السوفييتى لكن ليس بالاتساع والقوة المالية للولايات المتحدة، فهل يمكن اعتبار أن التكنولوجيا قوة ناعمة؟

القوة الناعمة هى تأثير دولة على الدول الأخرى وجعل تلك الدول تتبنى وجهة نظر تلك الدولة وتربط مصالحها بها دون الحاجة إلى استخدام قوة خشنة أى قوة عسكرية، فهل صنعت التكنولوجيا ذلك؟ أعتقد أن الإجابة هى نعم، إذا نظرنا على خريطة العالم سنجد دولا حول الصين مرتبطة مصالحها بأمريكا نتيجة التكنولوجيا، طبعا الصين لن تقف مربوطة الأيدى وتحاول أيضا الدخول فى تلك الحرب المعتمدة على القوة الناعمة وسنرى تكنولوجيات صينية تظهر فى مقابل تلك الأمريكية والحرب سجال وكلنا رأينا ما فعلته أمريكا فى شركة هواوى الصينية وأيضا عندما أصدرت إدارة الرئيس بايدن قرارات بتقييد تصدير بعض الأجهزة المتعلقة بتصنيع الرقائق للصين، وأيضا أصدرت إدارة بايدن قانون (CHIPS) فى التاسع من أغسطس سنة 2022 الذى يضع ميزانية ضخمة لتصنيع الرقائق وعودة الهيمنة الأمريكية على تلك الصناعة إلى سابق عهدها.

ماذا تفعل الدول النامية فى خضم هذه الحرب التكنولوجية بين الدول الكبرى؟ لا تستطيع أغلب دول العالم مجاراة الدول الكبرى فى الإنفاق على تصميم وتصنيع الرقائق، لكنها أيضا لا يجب أن تقف مكتوفة الأيدى، أولا يجب عليها دراسة التكنولوجيات المختلفة ومعرفة مدى كفاءتها بالنسبة لسعرها وما يمكن منها أن ينفعنا خاصة أن العالم كله اتجه إلى عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعى، ثانيا يجب تنويع مصادر الحصول على تلك التكنولوجيات ومعرفة كيفية استخدام تكنولوجيات مختلفة من مصادر مختلفة، ثالثا يجب محاولة استقدام الشركات الكبرى وإقناعها بفتح مصانع ولو صغيرة فى تلك الدول النامية والتعلم من تلك المصانع وليس فقط التوظيف.

نحن فى عصر التكنولوجيا فيه سلاح قوى سواء كقوة ناعمة أو كقوة خشنة أيضا.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات