مصر بلا ضبخان - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 9:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر بلا ضبخان

نشر فى : الأربعاء 18 مارس 2009 - 6:04 م | آخر تحديث : الأربعاء 18 مارس 2009 - 6:04 م

فى فرانكفورت عام 1999 علمت أن الألمان يقرأون كتبا بأربعة عشر مليون مارك سنويا. بدا ذلك رقما غير قابل للتصديق، لكننى بعد زيارة بضع مكتبات فى المدينة، رجحت أن الرقم صحيح، فالمكتبات التى زرتها كل منها بحجم «مول» عملاق للكتب، مساحات شاسعة، وطوابق عدة، أماكن للمشروبات والأطعمة الخفيفة، وأنتريهات مريحة فى كل الأركان، وكان أكثر ما شرح صدرى فى مدن الكتب العامرة تلك، أننى لم أجد هذا الشحط الذى يطب عليك وأنت تتصفح كتابا فى أماكن بيع الكتب فى مصر، ليجعر فى أذنك: «القراية ممنوعة يا أستاذ».

من هذه الزيارة لمكتبات ألمانيا، أدركت لماذا الصناعة الألمانية متقدمه وموثوقة، وانتبهت إلى أن ألمانيا ليست قلعة صناعية فقط، بل هى قلعة للإبداع الفنى والأدبى، وأفق مفتوح للغابات الكثيفة، ورائد فى الزراعة العضوية فى صناديق شبابيك البيوت. فهمت لماذا يتآخى فى ألمانيا الطب الحديث رفيع المستوى، مع طب الحضارات القديمة الذى تجدده المدرسة الألمانية. وفهمت كيف تتواجد العمارة الجيرمانية القديمة الرائعة ومعامل أدوية باير ومصانع مرسيدس فى مدينة واحدة. فهمت هذا المزيج الرائع من خصوبة الخيال الأدبى ومعجزات الروح فى كتابات هيرمان هسه، والاحترام العميق لتراث الشرق عند عبقرى الغرب جوته.

فى هذه الأثناء التقيت بالمهندس ابراهيم المعلم صدفة داخل معرض فرانكفورت للكتاب ولم يكن يعلم بوجودى، قال لى كلمته الضاحكة الأثيرة التى كان يبادرنى بها كلما رآنى بعد غيبة: الله، انت بتكبر واللا بتصغر»، وهو لم يعد يقول لى هذه الكلمة، لأننى فى السنوات الأخيرة فى مصر، استعدت كل السنوات التى كانت مخصومة دائما من حساب سنينى، غزا الشيب رأسى، وعيناى مجهدتان من الحساسية الدائمة للضبخان، الضباب الدخانى «Smog» الذى يتجول دائما فى شوارع العاصمة وحول بيوتها، ويحلق عاليا فى مواسم الركود فيصير سحابة سوداء.


تذكرت ذلك كله وأنا أزور مبنى جريدة الشروق الجديد، مررت خطفا على أصدقائى فى الجريدة، فليس هناك ما يدعونى لإطالة البقاء، خاصة وأنا أشفق على زيارة الناس فى وقت عملهم، فى طاحونة جريدة يومية تطمح للفعالية والرقى. ثم إن البريد الالكترونى والانترنت المنزلى يتكفلان بإيصال مساهماتى فى الشروق، ويعفيانى من مشاوير شوارع القاهرة المرعبة.

لم يكن هذا المرور الخاطف على الجريدة للأسباب التى ذكرتها فقط، بل لأن مكانا استثنائيا جميلا كان ينتظرنى فى الطابق الأول من مبنى جريدة الشروق، مكان نقل قطعة جميلة من مكتبات فرانكفورت ووضعها فى شارع متفرع من شارع البطل أحمد عبدالعزيز، أحد أكثر شوارع الجيزة زحاما مروريا، وتشبعا بالضبخان.

فى المكان الاستثنائى الجميل، كانت الكتب البديعة من أربعة أرجاء الدنيا وكل العواصم العربية تملأ الأرفف بأناقة، واللوحات تغطى الجدران. أقف لأتصفح الكتب دون أن يطب على أى شحط زاعقا فى أذنى «القراية ممنوعة يا أستاذ»، ثم أجلس فى ركن داخلى بعيد لصق الواجهة الزجاجية الفسيحة وأطلب شايا، أطل على حركة الحياة فى الشارع أمامى بينما ضوء النهار الغامر يأتى عن يسارى، إضاءة ملائمة لكل من اعتادوا على الكتابة باليد اليمنى حتى لو كفوا عن الكتابة بالقلم. ومع الموسيقى الخافتة ودرجة الحرارة المناسبة وغياب الدخان، والضبخان، لأن التدخين فى المكان ممنوع، والتلوث تحجبه المكيفات ومنقيات الهواء، اشتهيت الكتابة...

فتحت اللاب توب الذى صار أقلامى وأوراقى ومكتبى ورفيقى الدائم، خاصة وأنا أكتب غالبا خارج البيت، وحيث تكون هناك إطلالة فسيحة أمامى، وهى خصلة ظلت معى من أيام مقهى «أندريا» وشرفته الشاسعة الأليفة على نيل المنصورة الجميل، الذى لم يكف عن الجريان فى روحى، برغم رؤيتى وإبحارى فى عشرات أنهار الدنيا العظيمة.

استرسلت مع لذاذة الشاى فى طقطقة قصة قطعت فيها شوطا لا بأس به، ولما دخلت فى منطقة انفتاح الحواس على الداخل لا الخارج، خايلنى طيف صبيتين جميلتين لم يكونا فى القصة التى أكتبها، وخرجت من القصة لأننى سمعت إحداهما تسألنى بخجل: مش حضرتك....
قلت نعم، وإذ بإحداهما، بالخجل الجميل ذاته، تقول: «يعنى احنا شبهنا على حضرتك بس خفنا نكون هانزعجك»، أبدا لم تكونا تزعجانى، بل بنضارتكما الصافية وثقافتكما المرهفة تبهجانى، استرسلتا تحدثانى، وكنت معهما، وبعيدا أيضا...

لم يكن إطراء الكاتب داخلىّ هو ألطف ما قطفته من ثمار عذوبة الصبيتين المشرقتين، لكن الألطف كان ذلك الخصم الجميل المفاجئ من حساب السنوات الكثار التى صرت أحملها، منحتانى بشفافية عمرهما الغض وتطلعات عقليهما الجميلين نقاء يزيل الكدر.

ودّعت الصبيتين بابتسامة حيرة وغبطة لأعود إلى ما كنت فيه، وفكرت فى أن ابتسامتى هذه، ربما كانت هى نفسها الابتسامة التى كانت تواتينى كلما غمرتنى بشاشة إبراهيم المعلم بالسؤال الأجمل لأى إنسان يغادر عمر الشباب «الله، انت بتكبر واللا بتصغر؟».

ثم كانت ابتسامتى تذوب وأنا أتأمل حركة الشارع خارج المكان الجميل عبر الزجاج، متى تصير شوارعنا أنظم وأجمل وأنظف؟ وهل هناك وسيلة أفضل غير المعرفة وحب الجمال، لرفض القبح، وإنقاذ مصر العظيمة مما هى فيه؟

وقررت أن أضيف المكان لقائمة الأماكن الجميلة القليلة فى القاهرة، التى أشرب الشاى فيها وأقرأ، وأكتب.  

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .