تحت قبة الجامعة (٢).. حديث المقدمات والنتائج - أيمن الصياد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحت قبة الجامعة (٢).. حديث المقدمات والنتائج

نشر فى : الأحد 19 أكتوبر 2014 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 19 أكتوبر 2014 - 12:32 م

«آفة حارتنا النسيان».. لكم كانت رؤية نجيب محفوظ ثاقبة فى عبارته الموجزة التى قرأناها فى روايته «المصادرة».

فى هذا المقال استكمال لما لم تسمح به مساحة مقال الأحد الفائت. وهو لا يعدو أن يكون قراءة فى صفحات ماض قريب، نحاول بها أن «نتذكر»، عسى أن ندرك كيف أدت المقدمات إلى نتائجها. كما تقضى بذلك حتمية المنطق.

الدكتور رؤوف عباس

يعرف أهل الاختصاص أن هناك جهتين دوليتين هما الأكثر مصداقية فى تقييم الجامعات والمعاهد العلمية (QS وShanghai Ranking). وكلتا الجهتين تضعان قائمة سنوية لترتيب الجامعات فى العالم من حيث الجدارة العلمية والأكاديمية (الاختلاف الطفيف بين القائمتين يكون لاختلاف فى المعايير والأوزان النسبية لتلك المعايير).

وتقول الأرقام إن أيا من جامعاتنا المصرية (باستثناء الجامعة الأمريكية) لم تنجح فى أن تأخذ أى مكان على قائمة QS للخمسمائة جامعة الأفضل فى العالم. فى حين نجحت جامعة مصرية واحدة هى جامعة القاهرة فى أن تأخذ مكانا فى فئة المائة الأخيرة (من ٤٠٠ إلى ٥٠٠) على قائمة شنغهاى.

وتقول الأرقام أيضا إن ست جامعات ومعاهد علمية إسرائيلية تحتل مكانا أكثر تقدما بكثير على القائمة ذاتها. فعلى سبيل المثال تحتل الجامعة العبرية فى القدس ومعهدTechnion-Israel-Institute-of-Technology الترتيب السبعين والثمانية والسبعين على التوالى. وبالمناسبة هذه الأرقام مهداة لأولئك الذين يصدعون رأسنا كل يوم بالحديث عن «اعتبارات الأمن القومى»، لعلهم يدركون صلة ذلك بما يتحدثون فيه.

وتقول الأرقام أيضا ما قد يكون متوقعا من احتلال الجامعات الامريكية لمكان الصدارة فى كلتا القائمتين. (ثمانية أماكن من بين العشرة الأوائل بالإضافة إلى جامعتى كمبريدج وأكسفورد البريطانيتين) ولعل هذه الأرقام مهداة أيضا لأولئك الذين مازالوا يجادلون فى العلاقة «الحتمية» بين الحريات العامة والتقدم العلمى. )الأرقام والجداول التفصيلية هنا).

•••

لماذا أصبحت جامعاتنا على هذا الحال الذى تكشف عنه تلك الأرقام المجردة «والدالة»، رغم أن بينها ما يتجاوز تاريخها المائة عام (جامعة القاهرة)، بل وألف عام (جامعة الأزهر)؟.

على بعد أمتار من تمثال طلعت حرب؛ أحد الذين حاولوا «مخلصين» أن يضعوا مصر فى مكانها الذى تستحقه، كان أن جمعتنى جلسات عديدة وطويلة بالراحل النبيل أستاذ التاريخ الدكتور رؤوف عباس. وبحكم نقائه، وصراحته المفرطة، لم تكن حكايا أستاذ «الجامعة» عن التعليم «والجامعة» تخلو من مرارة.. وإثارة. ثم كان أن فاجأنا جميعا بكتابه «مشيناها خطى»، ورغم صراحته التى لم تعتدها «أقنعة» وسطنا الثقافى، وجد الكتاب طريقه إلى النشر عن «دار الهلال» وقت أن كان أستاذنا الودود الراحل مصطفى نبيل يتولى مسئوليتها.

عن كواليس بعض ما كان يجرى «تحت القبة»، أو فى ظلالها «السياسية لا الأكاديمية»، يحكى الكتاب فى بعضه كيف أفسد النظام الحاكم «وقبضته الأمنية» الجامعة. وهى قصة تستحق أن نعود إليها لنتعلم من التاريخ والتجربة كيف علينا «ألا نكرر الأخطاء ذاتها».

•••

فى فصل تبقى لوقائعه وصوره وعنوانه؛ «موعدٌ مع الرئيس» دلالاتها الكاشفة لثقافة «حاكمة»، يحكى لنا المؤرخ الراحل مشهدا لا تنقصه الدراما للقاء «الرئيس» يومها بعدد من أساتذة الجامعة (يقول الكاتب إنه «لم يعلم القواعد التى اختيروا على أساسها»)، ولكنه يعلم أن ما يقترب من نصف الحضور الجالسين بين أساتذة الجامعة، لم يكن واقعيا ينتسب إليها، بل ينتسب إلى جهة ذات طبيعة أمنية. وبالتالى فقد كان طبيعيا أن يجاور «الرئيس» على المنصة أركان حكمه لا أكاديميين من قيادات الجامعة. كما كان طبيعيا الإشارة الدائمة فى كلمات المتحدثين إلى «توجيهات السيد الرئيس». ثم كيف كان طبيعيا أن يسفر الاجتماع عن «تكليف» الأساتذة بمهمة لا علاقة لها بعملهم الأكاديمى. ثم كان طبيعيا أيضا أن يكون للاضطلاع «الكفء» بتلك المهام أثره فى مكانة يحصل عليها هذا الأستاذ أو ذاك. لم يكن ذلك كله بغريب على ثقافة «حاكمة». فكان من الطبيعى أن ترى ظلالها تلون كل مشهد، فما بالك باجتماع مع «الرئيس».

يعود تاريخ الواقعة إلى نوفمبر ١٩٧٨، أما الثقافة «الحاكمة» فأخشى أنها مزمنة.

وبعد أن يروى لنا رؤوف عباس، فى موضع آخر من كتابه، كيف كان «من غير المقبول» أن يحاور نقابيا شيوعيا قديما، احتاج كلامَه حين كان يعد رسالته للماجستير عن الحركة العمالية فى مصر «لأن هذا قد يغضب السلطة الحاكمة» فى امتهان واضح للحريات الأكاديمية، ينتقل بنا فى الفصل الذى اختار له عنوانا صادما؛ «تحت القبة وهم» إلى روايات يحكى لنا فيها ملامح أخرى لتلك «الثقافة الحاكمة»، وتحديدا كيف كان من نتائج السطوة الأمنية «سيفا وذهبا» أن تفشَّى تدريجيا داءُ تملق الأساتذة للسلطة. بعد أن أصبح رجل الأمن هو صاحب الكلمة الأخيرة (من خلف الستار، بل وأحيانا من أمامه) فى ترقية هذا، أو فى إعاقة ذاك. كما كان هو، واقعيا الذى يملك السماح لهذا بالسفر، وتعطيل سفر ذاك (حتى لو كان السفر لمهمة علمية أو للعلاج)... إلى آخر ما يمكن تخيله من مزايا أو إجراءات للتكدير والتضييق والعقاب، ثم كان فى نهاية المطاف أن «هانت الأساتذة على النظام عندما هانت عليهم أنفسهم» كما يقول نص عبارات رؤوف عباس الذى يدلل بالتفاصيل والأسماء كيف كان ذلك (فى الكتاب من الوقائع، ما قد أتردد احتراما لقيمة التعليم والجامعة فى إعادة نشره).

عن كيف تختل العلاقة بين السلطة «الفرعونية» ومؤسسات «الدولة»، وكيف يكون ذلك كفيلا ببناء ثقافة تنتمى إلى قيم الماضى، لا قيم المستقبل، يحكى لنا عباس (من بين كثير آثر أن يحكيه وشهوده حاضرون) عن كيف استشاط غضبا حين طلب منه عميد الكلية يوما «على استحياء» أن يكتب بحثا أكاديميا لابنة «الرئيس» لتقدمه باسمها فى الجامعة التى تدرس بها (!). بل وكيف جرى تعديل قواعد القبول بالجامعات لتسمح لحرم «الرئيس» بالالتحاق بالجامعة، ثم كيف كان طريقها إلى التعيين فى هيئة التدريس، ثم كيف كانت تُعامل وهى بعد معيدة. ثم يحكى لنا الكتاب كيف كان يوم مناقشتها لرسالة الماجستير (نقلت قنوات التليفزيون الرسمى وقائع المناقشة) ثم، وهذا هو الأهم كيف كوفئ كل من شارك الأمر برمته بمناصب هنا وهناك.

ولأن القصص ذات الصلة، كما يعلم كل ذوى الصلة هنا أكثر من أن يرويها كتاب واحد أو راو واحد، بغض النظر عن اسم هذا المسئول أو ذاك، فلا أظن أن اسم «الرئيس» هنا أو اسم زوجته، يغير من الأمر شيئا. فالثقافة هى الثقافة، أيا كانت الأسماء - حين تختل العلاقة بين مؤسسات العلم والفكر من ناحية، والسلطة من ناحية أخرى. وحين تصبح التقارير الأمنية «لا الأبحاث والدراسات» ليست فقط العامل الحاسم فى الترقى وتولى الوظائف، بل وفى العقاب أحيانا. ولا أظن أحدا يحتاج إلى أكثر من المنطق، ليدرك أن «مقدمات» كهذه، استمرت لعقود، لابد أن تسفر عن «نتائج» كتلك التى تعكسها مواقع جامعاتنا بين جامعات العالم.

•••

سياسيا، لا أكثر، نسمع كل يوم من يحاول أن يقنعنا «بلا دليل» على أن «مجانية التعليم» التى نادى بها طه حسين، ووضعتها ثورة يوليو موضع التطبيق العملى هى المسئولة عن تردى حال التعليم والجامعات فى مصر. تنصلا من المسئولية، سمعنا ذلك كثيرا من مسئولى مبارك. وتضليلا سياسيا، سمعناه من الذين أخذهم عداؤهم لثورة يوليو إلى تعميم «وما أدراك ما الستينيات». كما نسمعه الآن من «الأرستقراطيين الجدد» والذين «للمفارقة» نجدهم الأكثر تأييدا لاستبداد الدولة الأمنية أيا كان حامل عصاتها (راجعوا من فضلكم حسابات مواقع التواصل الاجتماعى، وقارنوا المواقف السياسية من منظور الهوية الاقتصادية / الاجتماعية).

والحاصل أن هؤلاء وهؤلاء نسوا من حقائق الواقع ما ربما لم تطمره بعد الأيام والسنون.. ومنها:

١ـ أن ٩٠٪ من أولئك الذين يـلوكون ذلك أمام الكاميرات، لم يكونوا ليجلسوا أمام تلك الكاميرات، ولا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراكز مرموقة، ما لم يكن طريقهم إلى التعليم بمراحله المختلفة «مجانيا».

٢ـ أن التعليم فى العديد من الدول المتقدمة، والتى تحتل جامعاتها مراكز متقدمة على لائحة الجامعات الأفضل مجانيا بالكامل (ألمانيا مثالا)

٣ـ أن علماء مصر الناجحين هنا وهناك، بداية من زويل صاحب نوبل وليس نهاية بعصام حجى (ناسا) تلقوا كلهم تعليمهم فى مدارسنا وجامعاتنا «المجانية» قبل أن يتمكن سوس «الفساد» والإفساد، وعفن الدولة الأمنية، فضلا عن ثقافة «السمع والطاعة» الأبوية الحاكمة من الإتيان على كامل عصا سليمان.

إن لم تكن مجانية التعليم، فما الداء إذن؟

الإجابة.. أو بعضها فى كتاب رؤوف عباس.

•••

وبعد..

فليس هذا بكاء على «اللبن المسكوب»، بل حرصا على ما تبقى منه. عسى أن ينتبه أولئك الذين أخشى أن تعصف حساباتهم السياسية «الآنية» بحسابات «المستقبل». وعسى أن نتذكر ما نسبه الرواة إلى أينشتين من أن «الحمق هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة».

..........................

لمتابعة الكاتب:

Twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات