هل الجاسوسية عمل مقيت؟ - محمد السماك - بوابة الشروق
السبت 4 مايو 2024 4:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل الجاسوسية عمل مقيت؟

نشر فى : الأحد 19 ديسمبر 2010 - 10:06 ص | آخر تحديث : الأحد 19 ديسمبر 2010 - 10:06 ص

حدث مرة أن توجه السفير البريطانى فى فيينا إلى وزارة الخارجية محتجا بعد أن اكتشف أن البريد الدبلوماسى المرسل إليه من لندن قد انتهكت سريته. يومها أنكر المسئولون فى الخارجية النمساوية التهمة ونددوا بالسفير البريطانى بشدة لأنه اتهم الوزارة بعمل غير لائق.

فما كان من السفير إلا أن أخرج رسالة من الرسائل الدبلوماسية البريطانية التى تلقاها فى ذلك اليوم ووضعها فوق طاولة المسئول النمساوى وقال له بتهكم: انظر إلى ختم الشمع الأحمر. إنه ختم فرنسا وليس بريطانيا. فهل يعقل أن ترسل إلى وزارة الخارجية البريطانية رسالة سرية مختومة بالشعار الفرنسى؟
لم يجد المسئول النمساوى ما يرد به سوى الإقرار بالذنب مستخدما عبارة واحدة قال فيها: «آسف.. لقد كان ذلك غباء من الموظف المسئول»!

طبعا لم يكن الموظف الغبى بريطانيا. ولكنه كان نمساويا. إذ أعاد ختم الرسالة الدبلوماسية البريطانية بالختم الفرنسى المزور.. بدلا من الختم الإنكليزى المزور.

من هنا فالتجسس على البريد الدبلوماسى لم يكن ينتظر عصر الإنترنت ولا بروز ظاهرة ويكيليكس ليعلن عن نفسه. فالتجسس الدبلوماسى ظاهرة قديمة إلا أنه اتخذ بعدا جديدا لأسباب رئيسية ثلاثة، السبب الأول هو حجم المعلومات التى كشفها الموقع والتى تتناول 250 ألف برقية سرية أمريكية.

والسبب الثانى هو ان المستهدف هو الولايات المتحدة الأمريكية التى كان يعتقد انها محصنة داخل أسوار من السرية التى يستحيل اختراقها. فهى تعرف عن كل الدول صغيرة وكبيرة، ولكنها لا تمكّن دولة من أن تعرف عنها ما لا تريد هى أن يعرف.

أما السبب الثالث فهو أن الأسرار المكشوفة تتعلق بأحداث ووقائع لاتزال ساخنة. وتتناول دبلوماسيين أمريكيين لايزالون فى مناصبهم، وشخصيات مسئولة فى العديد من الدول لايزالون فى مواقعهم القيادية، سياسية كانت أو أمنية أو اقتصادية أو حتى دينية!!

لقد كشفت البرقيات السرية عن واقع النفاق الواسع النطاق فى العمل الدبلوماسى. ذلك أن الدبلوماسى الأمريكى كان ينقل إلى المسئول فى الدولة المعتمد لديها انطباعات وردية عنه، ثم يقدمه فى برقياته إلى وزارة الخارجية الأمريكية بعبارات مسيئة وأحيانا بذيئة، كما جرى للرئيس الإيطالى سيلفيو برلسكونى مثلا. كذلك كشفت هذه البرقيات ان أجهزة الإعلام الرسمية فى العديد من الدول تنقل عن المسئولين فيها مواقف تلقى ترحيبا من الرأى العام.. فى الوقت الذين تنقل البرقيات السرية للدبلوماسيين الأمريكيين عن هؤلاء المسئولين أنفسهم مواقف معاكسة تماما.

وهذه الازدواجية مارستها حتى الصحف العالمية الكبرى التى تولت نشر وثائق ويكيليكس، وهى نيويورك تايمز الأمريكية ودير شبيجل الألمانية والجارديان البريطانية، والبايس الإسبانية ولوموند الفرنسية. فقد اتفقت هذه الصحف على حذف أسماء معينة من الشخصيات السياسية والعسكرية الواردة فى البرقيات الدبلوماسية السرية بحجة المحافظة على سلامتها. ولكن ماذا عن سلامة الآخرين الذين نشرت أسماؤهم.. وماذا عن حق الرأى العام «المقدس» فى أن يعرف، وهو الشعار الذى ترفعه هذه الصحف الكبرى مع غيرها من الصحف العالمية الأخرى؟

هل يعنى ذلك أن من واجب أجهزة الإعلام إذا وجدت أن معلومة ما تشكل خطرا على حياة شخصية معينة أن تحجبها عن الرأى العام؟. وهل سلامة هذه الشخصية تتقدم على حق المعرفة التى تشكل أحد الحقوق الرئيسية للإنسان؟ ثم من يملك حق اتخاذ القرار فى هذا الشأن؟

لقد سقط عدد كبير من الإعلاميين ضحايا اعتداءات أودت بحياتهم لأنهم نشروا معلومات عن هيئات أو منظمات أو أشخاص ما كانوا يريدون نشرها. حدث ذلك مرارا فى روسيا. وحدث فى العديد من دول أمريكا الجنوبية. كما حدث فى دول عربية أيضا. ولذلك ليس غريبا أن تكون حياة مؤسس ويكيليكس فى خطر. ولعل توقيفه ومحاكمته (بتهمة الاغتصاب) يبعده عن القوى التى تريد تصفيته. ولكن هل المشكلة فى نشر الوثائق السرية الأمريكية أو فى مضمونها؟

خلال عهد الرئيس الأميركى السابق جورج بوش، قام الرئيس نفسه مع مسئولين فى إدارته بتزويد الصحفى الأميركى بوب وودورد بالتسجيلات السرية لوقائع الاجتماعات التى عقدت فى البيت الأبيض والتى تتعلق بقرار الحرب على العراق. ولقد نشر وودورد هذه الوثائق والتى تتناول دور أجهزة المخابرات ووزارة الدفاع الأمريكية فى كتابه الشهير «حرب بوش».

هنا أيضا جرى تسريب لوثائق سرية. ولكن التسريب كان بموافقة الرئيس الأمريكى نفسه ولذلك فهو يعتبر تسريبا مقبولا ولا غبار عليه. أما التسريب الذى قامت به ويكيليكس فقد اعتُبر قرصنة تعرّض أمن ومصالح الولايات المتحد للخطر وذلك بحجة أن ما نشرته لم يكن انتقائيا يتوافق مع حاجات الدبلوماسية الأمريكية، ولكنه كان عشوائيا يشكل إحراجا للدبلوماسيين الأمريكيين أمام مسئولى الدول المعتمدين لديها.

وفى ضوء قصة السفير البريطانى المعتمد فى فيينا فى القرن الثامن عشر.. تستطيع الدبلوماسية الأمريكية أن تتبنى العبارة التى استخدمها الدبلوماسى النمساوى عندما كشف له السفير أمر انتهاك الرسائل الدبلوماسية الموجهة اليه: لقد كان ذلك غباء من الموظف المسئول؟!

أثناء الحرب الأمريكية فى فيتنام ضاق ضمير مسئول أميركى كان يعمل فى وزارة الدفاع ذرعا بالحرب التى قضت على حياة الآلاف من الشباب الأمريكيين.

كان ذلك المسئول يدعى دانيال ايلسبرج. وقد لاحظ إيلسبرج أن وقائع الحرب المدمرة تتناقض مع المعلومات الرسمية المتفائلة التى يذيعها البنتاجون، فعمد إلى تسريب مجموعة كبيرة من الوئاق السرية الخاصة بوزارة الدفاع إلى صحيفة نيويورك تايمز.

نشرت الصحيفة الوثائق.. الواحدة تلو الأخرى من دون أن تشير إلى مصدرها.. يومها اهتزت أركان وزارة الدفاع والبيت الأبيض معا.. ولم يجد الرئيس ريتشارد نيكسون من مخرج سوى التفاوض مع الفيتكونج لوقف الحرب.. ولوقف الكذب على الرأى العام الأمريكى.

لم يكن عمل دانيال إيلسبرج أخلاقيا. إذ إنه بتسريبه الوثائق إلى الصحيفة انتهك أخلاقية العمل فى وزارة الدفاع وحنث بالقَسَم الذى أوصله إلى موقعه المرموق فى الوزارة الا انه قدم لبلاده خدمة جليلة إذ أخرجها غصبا عن إرادة القادة السياسيين والعسكريين من أتون حرب مدمرة.

واليوم يواجه جوليان آسانج مؤسس ويكيليكس التهديدات الأمريكية ليس من وزارة الخارجية الأمريكية فحسب، إنما من البيت الأبيض أيضا حيث وصف الرئيس باراك أوباما عمله بالمقيت.. ولكن إيلسبرج ارتكب فى الستينيات من القرن الماضى عملا مقيتا أيضا جعل منه بطلا للسلام !!.

محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات