وفى الثورة.. الحرية السياسية لا تكفى - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وفى الثورة.. الحرية السياسية لا تكفى

نشر فى : الأحد 20 مارس 2011 - 9:07 ص | آخر تحديث : الأحد 20 مارس 2011 - 9:07 ص
استحوذ الجدل حول تعديلات الدستور والاستفتاء الذى جرى أمس على عقل وحركة المصريين خلال الأسبوعين الماضيين ليتراجع كل شيء آخر أمام تلك القضية السياسية الدستورية الهامة.

ومع اتخاذ المصريين قرارهم بلا أو نعم يتوقف مستقبل الثورة على أن يجسد هذا الموقف نفسه فى صورة موقف واضح من باقى مطالب الثائرين، التى لا يمكن فصمها عن السياسة، وهى المطالب التى طرحوها تحت شعار العدالة الاجتماعية.

توصف الثورة بأنها ذلك الدخول القسرى للجماهير إلى عالم الحكم، عالم تقرير مصيرها.

وفى هذا فإن اهتمام جماهير الثائرين بالدستور وما يرتبه من قواعد للعبة السياسية ليس هدفا فى حد ذاته، وليس تعبيرا عن رغبتها فى الفوز بمسابقة الدستور الأكمل قانونيا، وإنما يفترض أن يكون ذلك مجرد خطوة على طريق تأكيد نفوذها، الذى انتزعته بدماء الشهداء، فى استعادة التوازن فى المجتمع من القلة الحاكمة والمستفيدة إلى جموع الأغلبية المنتجة.

بالنسبة للمواطن الثائر، عماد التغير الهائل الذى شهدته بلادنا وهز العالم بأسره، الثورة هى أن يتحسن دخله، وأن يحصل على خدمات عامة كفئة دون تمييز بينه وبين الغنى، وأن تنحاز القوانين والعملية الاقتصادية لمصلحته ومصلحة أبنائه، فتعطيه الوظيفة اللائقة والأجر الكريم المنصف والنصيب العادل من ثروات البلاد.

ثورة ضد الليبرالية الجديدة
لا يمكن فهم الثورة المصرية ولا قدرتها على الحشد المدهش المفاجئ لملايين المواطنين إلى مواجهة بحجم الذى رأيناها منذ 25 يناير، مع جهاز دولة قمعى وعنيف وقاتل، كعمل سياسى ليبرالى ديمقراطى بحت بحثا عن الحرية الانتخابية وحسب.

وليست الثورة المصرية فى ذلك استثناء من الانتفاضات الجماهيرية التى شهدها العقد الماضى بدءا من إندونيسيا ومرورا بالأرجنتين وبوليفيا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية.

هذه إنتفاضات لاتفصل بين الديمقراطى والاقتصادى، وكان فى القلب منها الانقلاب على سياسات اجتماعية واقتصادية، بعضها تم فى ديمقراطيات انتخابية كالأرجنتين والمكسيك، أعطت السلطة على الأرض بتحويل ثروة المجتمع لحفنة من رجال الأعمال الكبار على حساب التنمية والبشر.

وفى مصر، هل يمكن فصل ثورة 25 يناير عن الاستياء الشعبى الواسع من سياسات التراكم الرأسمالى أولا، ثم تساقط فتات الثمار للأغلبية، عبر إعطاء الأولوية فى الاقتصاد، الذى ينظم حياتنا اليومية جميعا، لمن يتحكمون فى هذا التراكم.

هل يمكن فصل زخم الثورة عن الفجوة الهائلة فى الثروة والسلطة بين طبقة الأغنياء المالكة والمستهلكة وبين ملايين الفقراء المنتجين، الذين تم حرمانهم من التعليم والصحة والعمل الكريم عبر هذه السياسات المنحازة ضدهم.

فى جميع الانتفاضات التى شهدتها أمريكا اللاتينية، كان هناك تغيير واضح فى الموقف من سياسات الليبرالية الجديدة (انسحاب الدولة ــ قدسية تحرير الأسواق ــ تقليص الإنفاق العام على التعليم والصحة – الخصخصة ونقل الثروة فى الصناعة والأراضى والخدمات). وظهر فى هذه البلدان نمط تنموى جديد أسماه البعض «المؤسسية الجديدة»، والبعض الآخر «مابعد الليبرالية الجديدة».

ومع التنوع الكبير فى إطار هذا النمط وحدوده، بين التأميم مثلا فى بوليفيا وفنزويلا إلى رأسمالية تستعيد دورا للدولة بسياسات توزيعية جديدة فى البرازيل، فإن الصيغ جميعا حاولت الاستجابة للجماهير التى فرضت نفسها على مشهد اتخاذ القرار، بتجسيد هذا التوازن السياسى الجديد على الأرض فى حياتها اليومية.

ومازالت حدود هذه المهمة تحكم الصراع السياسى فى هذه البلدان، بين هذه القوة البازغة وبين القوى الأخرى فى المجتمع التى لم تنه الانتفاضات هيمنتها على السلطة الاقتصادية ومن ثم السلطة السياسية، حتى وإن كانت ترتدى ثياب الديمقراطية الانتخابية.

الديمقراطية وحدها لا تكفى
بعد تنحى مبارك بساعات كتب الصحفى وكاتب العمود بوب هيربرت فى جريدة النيويورك تايمز الأمريكية ليعيد تقييم ديمقراطية بلاده فى ضوء الثورة المصرية. قال هربرت تحت عنوان «عندما تضعف الديمقراطية» إنه «حين يعانى ملايين الأمريكيين العاديين من البطالة وانخفاض مستويات المعيشة، تسيطر النخبة المالية والشركات على جميع مقاليد السلطة الحقيقية تقريبا. وما يريده الناس العاديون ليس مهما فى الحقيقة.. فالأثرياء يعزفون اللحن والساسة يرقصون عليه».

يتحدث هربرت عن الديمقراطية الأمريكية العتيدة التى تئن تحت المبالغ الهائلة التى تنفقها النخب المالية والشركات على الحملات الانتخابية، وشراء النشطاء فى جماعات الضغط ومؤسسات الأبحاث بأثمان مرتفعة وكذلك شراء وسائل الإعلام، «وأى شىء آخر يمكنها التفكير فيه.

وهم يغدقون على مشروبات ومأكولات كبار قادة الحزبين الجمهورى والديمقراطى. وعلى تنقلاتهم فى طائرات نفاثة خاصة، كما يشترون ولاءهم بملاعب الجولف، والعطلات الفخمة، ويمنحونهم وظائف عالية الراتب».

يشير الكاتب الأمريكى إلى أن النظام السياسى الأمريكى صار يعبر عن سياسة الفائز يكسب كل شىء.

«وخطوة إثر خطوة، ومناقشة بعد مناقشة، يعيد المسئولون الحكوميون الأمريكيون كتابة قواعد السياسة الأمريكية والاقتصاد الأمريكى على نحو يفيد القلة وعلى حساب الكثرة».

ويختتم هربرت مقاله باستعادة لقاء بينه وبين المؤرخ الأمريكى الكبير هوارد زين فى يناير 2010 كان الأخير فيه متكدرا بسبب الأوضاع فى الولايات المتحدة، بيد أنه لم يكن خائفا. وقال: «إذا كان تغيير حقيقى سيقع، فسوف يتعين أن يجرى من أسفل إلى أعلى، من الناس أنفسهم».

ويقول هربرت إنه تذكر ذلك، وهو يغطى الاحتفالات الجامحة بسقوط مبارك فى شوارع القاهرة.

ما الذى نفهمه من هذه النظرة القادمة من واحدة من أهم الديمقراطيات الليبرالية فى العالم؟ أولا أن حرية الانتخاب والترشيح وتشكيل الأحزاب وكمال الدستور قانونيا ليست فى حد ذاتها ضمانة كافية للديمقراطية بمعناها الإنسانى الذى تفهمه الجماهير، إذا سمحت للأغنياء والشركات بمراكمة الثروة والسلطة لحسابها. وثانيا إن الضمانة الحقيقة هى ماتمثله الثورة من ذلك الاقتحام الجماهيرى لساحة القرار السياسى، الذى يحسدنا عليه هربرت.

وهكذا يمكن اعتبار أن اختزال الثورة المصرية فى كمال دستور «الشرعية الثورية» بمعزل عن «العملية الثورية»، أو تعليق مصير الثورة على نص قانونى مهما كانت أهميته فى مقابل مقتضيات تمكين الجموع سياسيا واقتصاديا، هو الانقلاب الحقيقى على الثورة ومطالب الثائرين لصالح المصالح القديمة.

فى هذا الإطار فقط كان يمكن لأحد رجال الأعمال الكبار، الذى حصل على أهم نشاطاته فى مصر من خلال صفقة بالملايين تحولت لمليارات فى غمضة عين بعد أن تضمنت احتكارا لخدمة هامة لعدد غير قليل من السنوات، رجل أعمال رحب بشدة بحكومة نظيف وسياساتها، أن يضع نفسه وسيطا مع السلطة ثم فجأة متحدثا باسم الثورة ثم متبنيا لموقف لا لتعديلات الدستور، مصطفا فى ذلك مع أغلبية المعارضة بما فيها اليسار الراديكالى برغم أنه أبرز من هاجموا احتجاجات العمال والموظفين الشرعية من أجل تحسين أجورهم الزهيدة واصفا إياهم بالجشع، وغير مكتف فى ذلك بالموقف وإنما دخل بثقله المالى ليدعم حملة إعلانية واسعة بمئات الآلاف، إن لم يكن بالملايين لترويج هذا الموقف.

هذه هى خطورة الاحتجاجات الجماهيرية من زاوية مصالح هذا الرجل ومن هم على جانبه من المتاريس: أنها تضمن استمرار اقتحام الجموع لمجال الحكم، وليس فقط شكليا عبر صندوق الانتخاب.

الثورة أكثر من مجرد دستور جديد
فقط فى فترة الثورة، عندما تتخلخل الأساسات والجدران الاجتماعية للمجتمع القديم بفعل ضغط الناس، يستطيع أى عمل سياسى ذو بعد اقتصادى اجتماعى تقوم به أن يوقظ فى ساعات معدودات قطاعات كاملة من الطبقة العاملة، لم تكن قد تأثرت حتى ذلك الحين، من حالتها السلبية، وسرعان ما يعبر هذا الأمر عن نفسه بالطبع على شكل نضال اقتصادى عاصف.

«فالعامل الذى يستيقظ فجأة بفعل الصدمة الكهربائية التى يصيبه بها العمل السياسى يقبض حالا على السلاح الذى فى متناول يده، وهو الإضراب والاعتصام، ليقاتل ضد ثقل وضغط قيوده الاقتصادية، ومصالح تلك القوة الهائلة التى خلقتها سياسات الليبرالية الجديدة فى مصر.

فى هذا الإطار فإن الخطوة التى أعلنها وزير القوى العاملة بإطلاق حرية تأسيس النقابات هى فى تقديرى الانتصار السياسى الأكبر للثورة حتى هذه اللحظة. ذلك لأنها خطوة تفتح الباب لجموع المنتجين للربط بين الحريتين التى لا انفصام بينهما: حرية الرأى والاختيار وحرية العيش. هذه النقابات التى بدأت تبزغ على الأرض فى مصر بمبادرة شعبية مباشرة، هى الضمان الأول لكى لا يسيطر المثقفون ورجال السياسة والمحللون الاستراتيجيون، ومن وراءهم أصحاب المال، على الطريقة الأمريكية، على المجتمع مرة أخرى. الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، التى يصمها البعض زورا بنشر الفوضى، هى الطريق الوحيد لديمقراطية ولأحزاب ولدستور لا يكتفى بأطر سياسية وقانونية وحزبية كاملة شكلا، ومفرغة مضمونا، لصالح القلة القوية..هى الطريق الوحيد لتأسيس سلطة جديدة شعبية ديمقراطيتها تنعكس حتى فى الهواء الذى نتنفسه.
وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات