ــ1ــ
ضربنا أمثلة كثيرة لنفرق ونميز بين الحديث النبوى الشريف باعتباره مصدرا آمنا لاستخراج السنة النبوية الشريفة، فإن السنة النبوية هى الإطار العام الجامع للطريقة النبوية فى تطبيق القرآن، كما أن السنة النبوية هى النموذج «النبوى العام» الذى يستطيعه، ويقدر عليه الكثرة الغالبة من المكلفين فى الأمة المسلمة.
والفرق واسع وكبير بين نظام عام أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين دواء خاص وصفه الرسول لحالة خاصة من حالات الناس. كذلك فإن الحديث النبوى الشريف يضم ما تفضل به الصحابة من وصف دقيق للرسول صلى الله عليه وسلم للتبرك به، وكذلك لعقد صداقة ومحبة بين المسلم وبين الرسول الخاتم، وقد شملت تلك الأوصاف الأحوال الجبلية التى يمارسها كل إنسان طبقا لمعطيات بيئته زمانا ومكانا مثل ماذا يأكل وماذا يشرب؟ وماذا يلبس؟ وكيف ينام؟ وكيف يمشى ويجلس أو يقوم ويقعد، فكل ذلك ليس من السنة النبوية، ولا لوم على أحد إن لم يفعلها، ولا تقصير.
ــ2ــ
كذلك من العلامات المعينة على تمييز السنة النبوية الجامعة من غيرها من الأحاديث أن أمنا عائشة رضى الله عنها قد ساقت لنا بعض الضوابط حيث قالت وشاركها فى ذلك كثير من الصحابة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد كسردكم، ولكن يتكلم فصلا فتعيه القلوب وتحفظه العقول»، كما قالت رضى الله عنها أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أحصاه العاد (الذى يعد الحروف والكلمات) لعده (أى لاستطاع المستمع أن يدركه ويحفظه)، وهذا ضابط واضح هو قصر العبارة وقلة عدد الكلمات مثل: «أوصنى» فقال: «لا تغضب»، ومثل «وجعلت قرة عينى فى الصلاة»، ومثل: «كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان للرحمن ثقيلتان فى الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» فأين هذا «البلاغ النبوى المبين» من تلك الروايات التى تصل إلى صفحة وربما إلى صفحتين؟!
ــ3ــ
كذلك ورد ما يشبه الإجماع على أن رسول الله صلى اله عليه وسلم كان إذا تكلم أعاد كلامه ثلاثا! (وذلك ليستوعبه السامع) ، وذلك ضابط واضح يحتاج إلى زيادة بيان، فكل ما صدر عن الرسول متعلقا بعموم الأمة ومجموع الرسالة، فإنه صلى الله عليه وسلم ينتقى «الكلمات القليلة»، كما أنه يعيد العبارة ثلاثا.
أما تلك الروايات كثيرة عدد الكلمات فهى ليست من السنة النبوية الشريفة، بل هو تواصل مع بعض الناس لأسباب خاصة لا تهم الأمة ولا تتعلق بوظيفة البلاغ المبين.
ــ4ــ
كذلك فإن أمنا عائشة ــ رضى الله عنها ــ وهى بحكم صلتها بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها نظرا لصغر سنها من ناحية، ولقربها من الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية ثانية، ولطبيعتها الأنثوية فهى تحمل فقه النساء إلى النساء..
كل ذلك جعلها تفهم ما هى السنة النبوية فهما دقيقا، فكانت رضى الله عنها تراجع الرواة فيما يقولون وما ينسبونه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تستند إلى منطق قرآنى عظيم فحواه: استحالة مخالفة السنة النبوية لظاهر القرآن أو للشائع الواضح من معانيه، وقد تكرر ذلك منها مرات كثيرة حتى أن الإمام الزركشى قد جمع كتابا لتلك المراجعات سماه «الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة» وهو كتاب قيم مطبوع تولى تحقيقه أحد علماء الحديث النبوى الشريف فى كلية دار العلوم وهو الأستاذ الدكتور رفعت فوزى عبدالمطلب، ومن أمثلة هذه المراجعات رفضها لمقولة: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، فقالت: «لم يقل رسول الله ذلك، وأين أنتم من قول الله تعالى ((ولا تزر وازرة وزْر أخْرى))..
ــ5ــ
وإذا كنا نقر ونعترف بفضل هؤلاء الجهابذة الذين تولوا جمع الحديث النبوى نقدر رواياته وتدوينها ونعتبر جهودهم مكنزا للشئون النبوية جميعها حديثا وتصرفات وسيرة وسنة نبوية، فإننا لا ننسى أبدا المصدر الأقدس والأوثق والأقرب لرحمة الله بعباده، وهذا المصدر هو القرآن الكريم. وكيف ذلك؟ نسأل أنفسنا سؤالا جدليا: هل أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ربه؟ والإجابة لا شك: نعم أطاعه واتبعه حتى رضى الله عنه ورفع ذكره كما نرى فى الأذان والشهادة..
فهل نستطيع جمع السنة النبوية الصحيحة أولا من القرآن الكريم؟ نعم، فكل أمر أو تكليف جاء من الله قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنفيذه خير قيام.. فهيا إلى استخراج أعلى السنة النبوية وأغلاها من القرآن الكريم.