الحُكم وشياطين أُخرى - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 1:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحُكم وشياطين أُخرى

نشر فى : الخميس 21 يوليه 2011 - 8:16 ص | آخر تحديث : الخميس 21 يوليه 2011 - 8:16 ص

 بطل رواية «الحب وشياطين أخرى» لجابرييل جارثيا ماركيز هو واحد من العشاق الذين يفتننى فى الحياة أو الأدب أو التاريخ تماديهم فى الحب والتضحية من أجله بكل ما عداه، حتى لو وصل بهم الأمر إلى الموت حبا. ولدى ماركيز نماذج صارخة من هذا النوع من المحبين، الذين نكتشف عبر السرد البديع لقصص حبهم، أن كل ما ضحوا به من أجل الحب لم يكن خسرانا لهم، بل خلاصا من أشياء يفوز بخسارتها الإنسان.

وقد كان مجنون الحب فى هذه الرواية راهبا، تحدى كل المحظورات المحيطة بموقعه شديد المحافظة، ليشق طريقه نحو حبه دون هوادة، ونكتشف على وقع خطواته الدامية فى درب آلام الحب هذا، أنه لم يخسر سوى أغلال دنيوية اصطنعها شياطين البشر للتسلط على البشر باسم السماء، وأنه بينما كان يكابد صاعدا نحو حبه المستحيل، أخذ إيمانه يصفو وقلبه الذى أرهفه الحب يصير أقرب إلى الله واسع الغفران كريم الرحمات، وأبعد عن كل شياطين الإنس والجن عديمى الرحمة كارهى الحب.

فى هذه الرواية العذبة الوهاجة، عاد ماركيز ببطله العاشق إلى مرحلة مبكرة من عمره، لنكتشف عبر القراءة أن الحب حقا موهبة، شأنه شأن الفن وكل صنوف الإبداع الإنسانى، وهذه رؤية تتفق تماما مع رؤية الطبيب والمحلل النفسى الأمريكى العالمى الألمانى المولد «إريك فروم» الذى أعتبره أحد معلمىَّ الكبار فى تخصصى وفى فهم فوضى طاحونة الحياة المعاصرة، ففى كتابه الصغير الكبير «فن الحب» الذى هو على عكس ما يوحى به عنوانه الدارج، يتحدث عن الحب الشامل الذى يتكامل به كيان الإنسان، على قواعد راسخة وشفافة من الاحترام والحدب والمسئولية، فيتخلص من أعمق مخاوف أعماقه، «خوف الانفصال»، ذلك الذى يهيمن على لاشعور كل إنسان فور أن يولد ويغادر أحنى وأرفق وأأمن واحات الدنيا: رحم الأم.

خوف الانفصال هذا يعتبره إريك فروم أشد مخاوف الإنسان إثارة لقلقه وإشعاره بافتقاد الطمأنينة، ومن ثم يشكِّل أقوى دوافعه للاتصال الإنسانى الذى يتبلور ويتكثف فى النزوع للحب والسعى للاكتمال به، بل الإشعاع والتنوُّر من خلاله، فيصير الإنسان مؤهلا لحب كل البشر وكل الوجود، فيُمسى ويصبح أعمق شكرا لخالق هذا الوجود.

بطل ماركيز فى هذه الرواية كشف عما أسميه «التكوين الأساس» لموهوبى الحب، فما من موهبة فى أى مجال بشرى إلا بها خصائص تكوينية تتجلى وتتألق مع التجربة والزمن، وتصقلها منحة الحب، وإرادة صون وتنمية ورعاية هذا الحب. وكما كل موهبة تسفر عن بوادرها فى طلعة العمر، كان بطل هذه الرواية، فعندما أرسله أهله وهو فتى صغير ليتعلم فى مدرسة داخلية بعيدة عن بلدته، وصل إلى هذه المدرسة بعد عدة أيام من السفر الشاق على بغلة تحمله مع صندوق حاجياته وهو يرتدى ثوبا لأبيه تم تعديله على مقاسه. وكان ذلك الصندوق أثقل من الفتى بمرتين، لأن أمه وضعت فيه كل ما سيحتاجه ليعيش بكرامة حتى انتهاء مرحلة الدراسة كمستجد. ساعده البواب على وضع الصندوق الثقيل فى منتصف الفناء، وتركه هناك تحت المطر قائلا له: «احمله إلى الطابق الثالث. هناك سيدلونك على مكانك فى المهجع».

وفى لحظة كان جميع من فى المدرسة يطلون من الشرفات على الفناء منتظرين ما الذى سيفعله الفتى الصغير بالصندوق. وحين أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على أحد، أخرج من الصندوق كومة من الأشياء التى يمكنه حملها بين ذراعيه بتمكُّن، وصعد بها إلى الطابق الثالث على الدرجات الحجرية المرتفعة. أشار له المشرف إلى المكان المخصص له فى صفَّى أَسرَّة مهجع التلاميذ المستجدين فوضع أشياءه فوق السرير، ثم عاد إلى الفناء ليصعد عدة مرات أخرى يحمل فيها ما تبقى من متاعه، وأخيرا أمسك بالصندوق الفارغ من مقبضه وصعد به وهو يجره على الدرج.

«الأساتذة والتلاميذ الذين مابرحوا يراقبونه من الشرفات، كانوا يكفون عن النظر إليه عندما يمر بهم عند كل طابق.

ولكن المدير الذى وقف ينتظره عند نهاية الدرج فى الطابق الثالث حين صعد بالصندوق، بدأ يصفق له. وحذا الآخرون حذوه بحماس. عندئذ علم أنه قد اجتاز بنجاح أول طقوس البدء فى المدرسة، ويتلخص هذا الطقس فى الصعود بالصندوق حتى المهجع دون السؤال عن أى شىء ودون مساعدة من أحد. لقد اعتُبِرت سرعة بديهته، وحُسن فطرته، وصلابة طبعه نموذجا يُحتذى لكل المستجدين!».

كان ذلك فى حدود الرواية، ولكن فى رحاب واقع كواقعنا، فقد يكون ذلك نموذجا يُحتذى فى الحكم أيضا، خاصة لدى رئيس الوزراء فى الفترة الحرجة التى ضاع منها الكثير وما عاد مقبولا أن يضيع أكثر، بسبب رخاوة الإرادة والارتباك وشتات الرؤية، ولا أقول انعدامها، فالمسألة ليست فى حاجة لعبقرية التنظير السياسى، بل فى حاجة ماسة لسرعة البديهة، وحسن الفطرة، وصلابة الإرادة التى هى حسنة فى الحب والحكم أيضا، أما الاكتفاء بالنوايا الحسنة ومحاولة إرضاء كل الناس بوعود غير موثوقة، وأحلام يقظة وردية فيما العين بصيرة واليد قصيرة والوفاض خالٍ، فهى جميعا مما يقود إلى الجحيم ومحافل الشياطين، شياطين الفوضى والبلطجة، واليأس الذى يجنح بالناس إلى الشطط فى القول والفعل.

فى كتابه «فن الحب» يؤكد إريك فروم على عنصر الاحترام للمحبوب كعنصر فارق بين فوران الرغبة العابرة وبين نشدان التوحد فى المصير، والاحترام فى هذه الحالة ليس بروتوكولا ولا إتيكيتا ولا إطراء بمعسول الكلام العابر، بل هو احترام لكينونة مستحقة للرعاية والحدب والإخلاص والامتنان لمجرد وجودها فى الوجود، أقرب ما يكون لحبنا أمهاتنا، ولأوطاننا التى سيجد كل صادق عادل فيها كل تجليات الأمومة مهما بدت قاسية رغما عنها، ورغما عنا، بفعل مكائد شياطين الإنس من الناهبين والطغاة الذين نجحنا جميعا فى توقيف معظمهم وكف أغلب شرورهم وإلقائهم فى جب الزراية بما فعلت أيديهم، بإرادة ثورة 25 يناير التى سيوصَم بالعار كل من يخذل اكتمالها، سواء من ركنى الحكم أو فصائل الأمة.

لقد تصرف الفتى الذى سيغدو بطلا للحب عندما يكبر فى رواية ماركيز بشكل بديع، ينم عن بداهة نبيهة وكرامة إرادة، وفيما يمكن أن نعبِّر عنه فى شأننا السياسى الراهن بـ«الرؤية السياسية» و«تحديد الأولويات» و«إرادة الفعل» و«تقسيم العمل». وهى منظومة كانت واضحة فى نداء الثورة، فلماذا غامت ونامت فى فعل الحكم، خاصة الوزارة التى قدمت القليل جدا وكان يمكن أن تقدم الكثير خلال شهور البطء والتردد المنصرمة، والتى تعكس أول ما تعكس وهن إرادة الحب لهذه الأمة من كل أطراف الحكم، كما فصائل المتنابذين بالألقاب والادعاءات والمطامع الذاتية، صُناع «الهوجة» السياسية والطائفية التى أوشكت على الحلول بمكان الثورة أو تخريبها.

لم يعد ممكنا احتمال كل هذه الرخاوة فى حب الوطن وكل هذه المجانية فى اختلاق معارك لا لزوم لها وكل هذا الزيغ عن رؤية الأولويات التى لو كنا عملنا على إنجاز عنصر واحد فقط منها وهو «الأمن» لكان لنا فى الصعود شأن ملموس وموقف أفضل. ليتحمل المجلس العسكرى مسئوليته التاريخية كشريك فى صنع هذه الثورة النادرة لا كمجرد حارس لها أو عامل مساعد على إنجاحها كما يزعم بعض المتمترسين خلف مقولات أيديولوجية عفا عنها الزمن، وليكف صناع الفتنة عن النفخ فى نيران التربص والزهو بأغلبية مزعومة، فهذه أمة كبيرة لا أغلبية كبيرة لأى فصيل سياسى أو غير سياسى فيها.

وليتحمل الإعلام مسئوليته الأخلاقية بمراجعة «هرتلاته» السطحية التى لا تعى الفارق الخطير بين حق نقد «الحكم» وبين إضعاف تماسك مكونات «الدولة».

إن الخُسران فى الحب الفردى يُشقى المحبين ويسعد كل شياطين الكراهة لأشواق البشر الطامحين لتجاوز «خوف الانفصال» إلى طمأنينة «الاكتمال بالحب». أما الفشل فى حب الوطن والأمة، فهو يجلب التعاسة للملايين فتبكى عليهم صفحات التاريخ.
ألا نشتهى أن يصفق لنا التاريخ عند الصعود؟

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .