المواجهة القادمة فى غزة .. كيف ستكون؟ - محمد جمعة - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 1:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المواجهة القادمة فى غزة .. كيف ستكون؟

نشر فى : الإثنين 21 يوليه 2014 - 9:35 ص | آخر تحديث : الإثنين 21 يوليه 2014 - 9:35 ص

بغض النظر عن مآلات الجولة الراهنة من العدوان الإسرائيلى على غزة، والتى لن يتخطى ما تبقى منها ــ ما لم تحدث مفاجآت ــ حدود التوغل البرى المحدود بغية تدمير الأنفاق الأمامية الموجودة عند الحدود الشمالية والشرقية للقطاع مع إسرائيل، ثم ما يلبث الجميع أن يعاود مرة أخرى رحلة البحث عن صيغ خلاقة للتهدئة الجديدة، والتى ستكون فى كل الأحوال تهدئة هشة لن تستمر كثيرا.

•••

بغض النظر عن ذلك كله، فإن أحد أهم نتائج ما شاهدناه حتى الآن خلال عملية «الجرف الصامد» بحسب التسمية الإسرائيلية، تتمثل فى أن مسرح المواجهات على جبهة غزة أصبح محكوما بقواعد لعبة جديدة، وديناميات مختلفة، بحيث يمكن القول معها إن إسرائيل فى أية مواجهة (قادمة لا محالة) لن تكون معنية بإعادة انتاج ما سبق. بعد أن تسببت المواجهات الأخيرة فى إعادة الجدل حول ركائز الاستراتيجية الإسرائيلية المتبعة تجاه غزة، والمتمثلة فى:

1ــ غزة يمكن احتواؤها من الخارج. 2 ــ الإبقاء على عنوان استراتيجى ثابت فى القطاع يمكن ردعه والتفاهم معه مسألة حاكمة فى تحديد سقف العملية العسكرية. 3 ــ العمليات البرية ليست حتمية. 4 ــ بقاء الأوضاع على ما هى عليه لا يزال خيارا ممكنا لإسرائيل ولم يتجاوزه الواقع بعد.

جملة الاستخلاصات السابقة تحتاج إلى بعض التوضيح على النحو التالى:

1ــ من المعلوم أن إسرائيل تقدر وبشكل صحيح أن الضفة الغربية من السهل اختراقها بسبب الكثافة السكانية المنخفضة نسبيا، ولكن من الصعب احتواؤها من الخارج بسبب حجمها وطول الخط الأخضر (أكثر من 300 كم). غزة على النقيض، من السهل احتواؤها ولكن من الصعب اختراقها بسبب صغر حجمها وكثافتها السكانية العالية. تعبر التحركات الإسرائيلية بوعى كبير عن هذه الاختلافات. ولذلك فى عملية «الدرع الواقى» فى مارس عام 2002 حين سعى جيش الاحتلال إلى تحقيق انتصار حاسم أثناء الانتفاضة الثانية، دخلت إسرائيل الضفة واستولت مؤقتا على المدن الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، واقتحمت الخنادق على عناصر المقاومة سواء بهدف التصفية الجسدية أو الاعتقال. لكن فى غزة اتخذت إسرائيل مسارا مختلفا، لأنه من الصعب اختراقها، ولكن يُفترض أنه من السهل احتواؤها من الخارج. ولهذا قررت إسرائيل أن تنسحب منها بشكل أحادى الجانب عام 2005.

2 ــ قبل الشروع فى عملية «الرصاص المصبوب» عام 2008 كانت خبرة عملية «الدرع الواقى» فى الضفة لا تزال حاضرة، لكن حكومة نتنياهو أحجمت عن تنفيذ هذه الاستراتيجية وقامت بالأحرى بعملية برية محدودة وضعت بهدف إضعاف البنية التحتية لحماس، لكن دون المساس بقدرتها على الإمساك بالسلطة فى غزة. والسبب الرئيس فى رفض نتنياهو لعملية مماثلة للدرع الواقى أن إسرائيل تريد تكريس الانقسام، مع الإبقاء على حماس كعنوان استراتيجى فى القطاع يمكن ردعه والتفاهم معه. ذات الاستراتيجية جرى اعتمادها أيضا خلال عملية «ركيزة الدفاع» عام 2012، حيث اختارت إسرائيل القيام بعملية محدودة، لا تشتمل على غزو برى من أى نوع.

3 ــ الآن قوض التطور الصاروخى للفصائل فرضية أن غزة يمكن احتواؤها من الخارج. وفى المقابل، فإن تعزيز الوضع الراهن معناه ــ بالحسابات الإسرائيلية ــ أن المخاطر تتزايد بمرور الوقت نتيجة التطور المضطرد فى قدرات الفصائل العسكرية، والصاروخية منها بشكل خاص. تزايد «المخاطر» على هذا النحو لم يبق ــ بحسابات بعض الصقور فى إسرائيل ــ لنظرية العنوان الاستراتيجى الثابت أية أهمية تذكر، وعليه فمن الجائز جدا أن تتبنى إسرائيل فى أية مواجهة قادمة نفس الاستراتيجية التى طبقتها فى الضفة خلال عملية «الدرع الواقى» فى مارس 2002.

•••

وهذا يعنى أن المواجهة العسكرية القادمة لن يتوقف تأثيرها عند حدود ردع حماس على النحو الذى سبق ذكره، وإنما تتجاوز ذلك إلى حيث الإضعاف الشديد الذى يمس بقدرة الحركة على الاستمرار فى السيطرة على المجال العام فى غزة، على النحو الذى يغرى الجماعات المسلحة الأصغر فى القطاع بمناطحتها والصراع معها على السلطة والنفوذ. وهذا يعنى فى الحاصل الأخير أن العملية العسكرية القادمة ستؤسس لسيناريو «تدعيش غزة» حتى ولو لم يكن هذا ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه بالفعل! والمقصود هنا بـ«تدعيش غزة» ألا يكون لها رأس واحدة تحكم، أو عنوان استراتيجى ثابت يمكن ردعه والتفاوض معه، نتيجة سقوط القطاع آنذاك بين أيدى جماعات مسلحة متعددة تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة. وهنا علينا ألا ننسى أن الدولة الإسلامية كانت قد أُعلنت بالفعل من قبل تنظيم «جند أنصار الله» فى أحد مساجد رفح جنوب غزة، فى أغسطس 2009، لكن قدرة حماس آنذاك هى التى حسمت الأمر. وعلينا أيضا أن نلتفت إلى أن غزة تعج بثقافة «جهادية» عريقة، وفى ذات الوقت هى مثقلة بالهزائم والضغوط، فضلا عن أنها تمتلئ بالخبرات والكفاءات فى التصنيع العسكرى للأسلحة والمتفجرات. ومثل هذه البيئة كافية إلى حد كبير لإحداث تماس مع «القاعدة» أو تماهى مع أفكارها وطرق عملها. خاصة وأن الساحة الفلسطينية، بجميع فصائلها وأجنحتها العسكرية، تتعرض منذ العام 2006 إلى هجمات فكرية شرسة من رموز «السلفية الجهادية» كافة، وصل بعضها إلى حد إدانة حماس، واتهامها بـ«إضاعة الدين» و«خسارة الدنيا» كما عبر عن ذلك أسامة بن لادن فى خطابه «السبيل لإحباط المؤامرات». بل واللافت فى هذا السياق أن رموز «القاعدة» انتقلوا بعد ذلك من الهجوم والإدانة لحركة حماس، إلى التوجيه والتخطيط والإعداد، هذا ما نلاحظه فى خطاب صريح لأبى عمر البغدادى الأمير السابق لـ«دولة العراق الإسلامية» بعنوان: «الدين النصيحة»، يحرض فيه الجناح العسكرى لحركة حماس «كتائب القسام» على الانفصال عن الحركة. وأخيرا فإن عدد المتطوعين من قطاع غزة ممن التحقوا بصفوف المقاتلين فى جبهة النصرة وداعش ضد نظام الأسد فى سوريا، بات فى صعود ابتداء من العام الماضى. ومن المتوقع أن يكتسب هؤلاء المتطوعون خبرة عسكرية، تدريب أيديولوجى، وروابط مع جماعات تنتمى إلى القاعدة والجهاد العالمى. وعند عودتهم إلى قطاع غزة، سيصبحون مصدرا لخطر كبير على حماس قبل غيرها.

•••

سقوط غزة بيد جماعات متعددة ليس السيناريو الأسود بالنسبة لإسرائيل، كما يتصور البعض للوهلة الأولى، مادامت أن هذه الجماعات ستنفق الكثير من الوقت فى صراعها ضد بعضها البعض بأكثر مما تفعل ضد إسرائيل، كما نرى اليوم فى سوريا، حيث حقق النظام السورى مكاسب كبيرة إلى حد كبير بسبب انشغال داعش بقتال جبهة النصرة وجماعات أخرى بأكثر من انشغالها بقتال النظام. فى غزة، ربما يكون الأمر مختلفا قليلا، لكن بالتأكيد غزة تحت حكم الجهاديين ستعزز من التنسيق المصرى الإسرائيلى لإحباط التهديد. ناهيك أن إسرائيل آنذاك ستكون قد وسعت من عمق الشريط المحتل داخل غزة، ليصل عمقه إلى ألفى متر وربما ثلاثة، بدلا من الألف متر الحالية. والأهم من كل هذا أن سقوط غزة على هذا النحو سيمثل فرصة كبرى لإسرائيل كى تقدم على فك الارتباط الثانى عن غزة، مستكملة بذلك الخطوة التى أقدمت عليها عام 2005. فى حين أن المصلحتين المصرية والفلسطينية تتطلبان إدامة اشتباك غزة مع إسرائيل بالمعنى الديموجرافى (وليس العسكري) مادام أن اليمين الإسرائيلى يقطع كل الطرق التى تؤدى إلى حل الدولتين.

قد نتوافق حول هذا التقدير، أو نختلف جذريا بشأنه، لكن هذا لا ينفى فى كل الأحوال أن القول بأن خيارات إسرائيل فى المواجهة القادمة تتمثل فقط فى إعادة انتاج ما سبق، معناه أننا نسقط من حساباتنا الأثر الاستراتيجى الذى يمكن أن يُحدثه تطور القدرات الصاروخية للفصائل الفلسطينية، فى إعادة صياغة وبلورة الخيارات الإسرائيلية تجاه غزة.

محمد جمعة باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
التعليقات