غناء وانتماء - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 2:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غناء وانتماء

نشر فى : الإثنين 22 مارس 2010 - 9:32 ص | آخر تحديث : الإثنين 22 مارس 2010 - 9:32 ص

 عندمـا كنت تلميذا بالمـرحلة الابتـدائية بمدرسـة الأدفنتست الخاصـة المشتركـة ــ والأدفنتست طائفة مسيحية سبتية ــ لم تكن شرائط الكاسيت قد انتشرت، ولم يكن العالم قد عرف الأقراص المدمجة التى يمكن أن تجمع عشرات الأغانى فى أسطوانة واحدة، بل كان يعرف على استحياء تلك الأسطوانة البلاستيكية السوداء الضخمة التى تحمل فى الغالب أغنية واحدة تتمايل كموج البحر مع أنغام الموسيقى أثناء التشغيل.

ولما كانت مدرستى من المدارس البرجوازية الصغيرة، فقد كان بها جهاز لتشغيل تلك الأسطوانات يعمل فى فترة الفسحة فقط. ولا أعرف حتى الآن هل من باب التقشف، أو من باب الربط الدقيق بين زمن الفسحة وزمن الغناء، لم يكن لدى المدرسة سوى أسطوانتين فقط يتم إذاعتهما على الطلاب كل يوم فى فترة الفسحة بالترتيب نفسه: الأولى هى أغنية «صورة» غناء عبدالحليم حافظ وكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، والأخرى هى أغنية «زهرةالمدائن» غناء فيروز وكلمات سعيد عقل وألحان الأخوين رحبانى، ولهذا فقد استمعت لهاتين الأغنيتين يوميا لمدة ست سنوات متصلة.

وكما تتبدل مشاعر البشر إذا طالت مدة العلاقة بينهما، تبدلت علاقتى بهاتين الأغنيتين عبر المعاشرة الطويلة. فقد بدأت بالانبهار بهذه المتعة الترفيهية الاستثنائية المصاحبة للفسحة، ثم تحولت إلى الإعجاب بهاتين الأغنيتين الراقيتين فنيا، ثم انتقلت إلى الهدوء المتأمل الذى لا يرى فى حلاوة الأغنيتين مبررا كافيا لإذاعتهما دون غيرهما يوميا، ثم وصلت إلى مرحلة التوجس من أن يكون مصيرى هو الاستماع لهاتين الأغنيتين فقط طوال السنوات التالية، ثم دخلت فى دائرة التيقن من هذا القدر المكتوب، فانتقلت إلى مرحلة السأم، ثم مرحلة الملل، ثم مرحلة التعايش السلمى حتى لا تفسد هاتين الأغنيتين متعتى اليومية المتجددة بتناول الطعام والشراب فى وقت الفسحة، ثم دخلت فى مرحلة الاعتياد الكامل وهى مرحلة من المشاعر المحايدة لم أكن أستمع خلالها بصدق بالغ للأغنيتين اللتين يقرعان طبلة أذنى يوميا عبر مكبر الصوت، ثم انتقلت فى نهاية العام الأخير من الدراسة إلى الانتباه إليهما مرة أخرى، ثم الالتفات الحميم إلى العمق التاريخى للعلاقة بيننا، ثم الخوف من الوحشة، ثم الحزن للفراق، ثم الافتقاد الحقيقى لهما، ثم الندم العميق عليهما عند الاستماع إلى الفضائيات التى تلح الآن يوميا على أذنى بأغنيات محددة ما أنزل الله بها من سلطان.

وبغض النظر عن هذه العلاقة العاطفية المتوترة بالأغنيتين، فإننى أجزم بأن لهما تأثيرا عميقا فى تشكيل وجدانى وشخصيتى أنا وعشرات التلاميذ من زملائى الذين مروا بهذه التجربة ذاتها. فلا أظن مثلا أن شخصا قد استمع يوميا لمدة ست سنوات إلى عبدالحليم حافظ وهو يتغنى بكلمات صلاح جاهين التى تقول فى أغنية «صورة»:

على مدد الشوف مادنة ومادنة
دى لصـــلاتنـا ودى لجـــهادنـا
مدخــنة قايده قلوب حُسَّــادنا
تحـــتها صــــلب كأنه عــــنادنـا
وقــدامه من أغــــلى ولادنـــــا
عــــــــامل ومهــندس عـــرقــان
شــــــبان والشــــبان فى بلدنـا
فى الصــورة فى أهــــم مكـان

لا أظن أنه قد يفكر يوما فى بيع مصنع حلوان للحديد والصلب، حتى ولو فى أضغاث أحلامه.

كما لا أظن أن شخصا قد استمع يوميا لمدة ست سنوات إلى فيروز وهى تتغنى بكلمات سعيد عقل التى تقول فى أغنية «زهرة المدائن»:

الغضــب الســـاطع آت وأنا كـــلى إيمــــان
الغضــــب السـاطع آت سأمر على الأحزان
من كــل طــــــريق آت بجــــياد الرهبة آت
وكوجــــه الله الغـــــامر آت آت آت
***
لن يقفـــل باب مدينتنا فأنا ذاهـــبة لأصلى
ســأدق عــــلى الأبواب وسأفتح ها الأبواب
وستغسـل يا نهــر الأردن وجهى بمياه قدسيه
وستمحوا يا نهر الأردن آثار القدم الهـمجيه
***
الغضب الساطع آت بجياد الرهبة آت
وسيهزم وجه القوة
البيت لنا والقدس لنا وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس سام بأيدينا للقدس سلام
للقدس سلام آت للقدس سلام آت
آت آت آت

لا أظن أنه قد يشك ولو للحظة واحدة فى حتمية عودة القدس لأصحابها مهما ضاقت السبل وأظلمت السماء، حيث تتفق رؤية سعيد عقل الشعرية، مع فلسفة أرنولد توينبى فى تفسيره لحركة التاريخ التى تقرر أنه كلما اشتد التحدى زادت الاستجابة واقترب أمل الشعوب فى تحقيق الخلاص.

وبعد أن أدركتنى حكمة السنين أصبحت أظن أن اختيار هاتين الأغنيتين وإذاعتهما يوميا وفقا لترتيب معين لم يكن من باب التقشف وضبط الوقت فقط، بل كان من باب غرس مشاعر الانتماء الوطنى والقومية العربية فى نفوس التلاميذ أولا، وتوثيق علاقتهم بالفن الجميل ثانيا.

والآن بعد أن يسَّرت التكنولوجيا تقنيات التسجيل المتطورة وجعلتها رخيصة الثمن، وبعد أن تكأكأت علينا نوَّات الغناء الهابط المدفوعة الثمن، هل يمكننا استعادة التجربة السابقة فيما يشبه الإذاعة البديلة التى تحاول الارتقاء بالذوق العام وتعميق الانتماء؟ بشرط ألا يكون هذا مبررا لأن تقفز أغانى الفضائيات مرة أخرى من فوق أسوار المدارس إلى فنائها.

التعليقات