عمل فى صمت.. وأنجز فى صمت.. ومضى فى صمت - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عمل فى صمت.. وأنجز فى صمت.. ومضى فى صمت

نشر فى : الأربعاء 23 مايو 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 23 مايو 2012 - 8:00 ص

ذلك هو زكريا محيى الدين، أحد أهم أعمدة ثورة يوليو.. صاحب الدور الكبير فى تصميم وتنفيذ وإنجاح ثورة يوليو 1952، الذى شاءت إرادة الله أن يغيب عن عالمنا فى 15 مايو وهو تاريخ يصادف فى 1948 نكبة فلسطين التى كان قد شارك فى الدفاع عنها مع رفيق نضاله جمال عبدالناصر، ويصادف فى 1971 إقامة السادات الجمهورية المصرية الثانية بانقلاب أسماه ثورة التصحيح أراد منه القضاء على منجزات الثورة التى بشر الشعب بقيامها بقراءة بيانها الأول فى 23 يوليو 1952، فانتهت إلى أن يتحكم فى مصر من كان عبئا إستراتيجيا على مصر وكنزا إستراتيجيا لإسرائيل.

 

●●●

 

وفى 15 مايو 2012 وورى جثمان زكريا الثرى، فلم يأت ذكره فى الإعلام بمعشار ما يحظى به كاتب صحفى مغمور أو فنانة أمتعت الأنظار والأسماع... ذلك أنه كان نموذجا فريدا.. شعاره العمل المثمر فى صمت لتتحدث إنجازاته عن أفعاله، مستعينا فى ذلك بمن يلمس فيهم الكفاءة شريطة أن يكونوا مؤمنين بالثورة وأهدافها النبيلة. فبدأ بترشيح أحد أبناء كفر شكر، أستاذ الفلك إبراهيم حلمى عبدالرحمن، سكرتيرا عاما لمجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء رغم علمه بأنه كان من أعضاء الحركة اليسارية حدتو. وأثبتت الأيام حسن اختياره، حيث قاد مسيرة التنمية بدءا بإنشاء مجلس للخدمات وآخر للإنتاج وصولا إلى وضع الخطة القومية الأولى، ثم إنشاء معهد التخطيط القومى فى 1960، ثم دعته الأمم المتحدة فى 1962 لإنشاء منظمة التنمية الصناعية (اليونيدو). وعندما بدأت الثورة مفاوضاتها مع بريطانيا لتحقيق الجلاء، ساهم الدور الفعال الذى يقوم به السيد/ زكريا فى جهازى المخابرات والداخلية، من خلال ضربات تتمثل فى القبض على عصابات تجسس، فى تعزيز موقف المفاوض المصرى مع الإنجليز حتى أمكن التوصل إلى اتفاقية الجلاء.

 

●●●

 

ومع توسع القطاع العام فى أوائل الستينيات، أنشئ المعهد القومى للإدارة العليا فى 1961 ووضع تحت إشرافه. وساهم ذلك المعهد فى إعداد كوادر مؤهلة للنهوض بالقطاع العام خاصة بعد إقرار ميثاق العمل الوطنى فى منتصف 1962. غير أن التغيرات الضخمة التى أحدثها التحول الاشتراكى، استدعت فى 1964 تحويل ديوان المحاسبات الذى كان يتولى الرقابة المالية على الأجهزة الحكومية والمؤسسات العامة إلى جهاز مركزى للمحاسبات، بإضافة إدارة مركزية لـ«متابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء»، وأخرى لـ«البحوث والعمليات». وتولى السيد/زكريا رئاسة الجهاز، فاختار للأولى د. إبراهيم سعدالدين (رحمه الله) الذى كان قد استبعد من الجامعة لكونه ماركسيا، بعد أن لمس كفاءته فى معهد الإدارة. وجرى اختيارى لإدارة البحوث والعمليات، رغم عدم وجود سابق معرفة بيننا. فأنهيت إعارتى من معهد التخطيط القومى للأمم المتحدة كأستاذ فى معهدها الأفريقى للتخطيط. وحينما اقترح عليه الأمين العام للجهاز السيد/ العطار ترتيب لقاء مع رؤساء الإدارات المركزية، فكان رده أنه سيتعرف عليهم من خلال عملهم. وأقر ما اتفقت عليه مع الزميل سعدالدين بأن تكون الرقابة إصلاحية لا عقابية، بأن تؤدى تقارير المتابعة إلى بيان أوجه القصور فتتولى إدارة البحوث دراسة أسبابها واقتراح وسائل تلافيها بما فى ذلك تطوير أساليب العمل وتنقيح أدلته وتدريب العاملين.

 

وحينما أراد عبدالناصر التخلى عن الرئاسة والعمل على تطوير العمل الشعبى، أبديت له مخاوف من اضطراب المسيرة خاصة مع تضييق الغرب الخناق على مصر بعد الموجة الثانية من القرارات الاشتراكية، وتحويل ألمانيا معوناتها إلى إسرائيل بدعوى تعويضات عن جرائم النازى، فقرر أن يتولى السيد/ زكريا رئاسة الوزارة فى أول أكتوبر 1965، ليقود برنامج إصلاح شامل. فبدأ بعقد مؤتمرين واحد للإدارة لتطوير الجهاز الحكومى، والآخر للإنتاج طرح فيه إطلاق يد رؤساء وحدات القطاع العام. وأنشأ مكتبا فنيا لرئيس الوزراء كلفنى بإدارته من موقعى كرئيس للإدارة المركزية لمتابعة تنفيذ الخطة وتقييم الأداء بعد أن كلف سعدالدين بإدارة المعهد الاشتراكى. وانتدب وزير الدولة المرحوم شعراوى جمعة أعضاء له من كبار العاملين الأكفاء. وحين انتهت رئاسته قال لى إنه كان يعتمد على الرأى المحايد للمكتب فى الأمور التى تعرض عليه غير المتأثر بانحياز الجهة المسئولة. ولمست مدى الحدود التى كان يعانى منها حتى فى اختيار الوزراء، إلى جانب التذمر المتكرر من عدم القدرة على النفاذ إلى ما يجرى فى القوات المسلحة. وكلفنى برئاسة لجنة من مختلف أجهزة الدولة لوضع قائمة بمعايير تقييم لأداء رؤساء وحدات القطاع العام، يستند إليها بمشاركة نواب رئيس الوزراء فى محاسبتهم فى نهاية كل سنة. وجرت محاولات من عدة جهات دفعت سكرتير عام مجلس الوزراء لادعاء طلب رئيس الوزراء تمرير أعمال المكتب من خلاله، ورفضت هذا وأيدنى السيد/ زكريا.

 

وكان حريصا على ألا يحدث تغييرات بقدر يؤدى إلى ارتباك أجهزة الدولة. وكلف وزير المالية د. نزيه ضيف بإعداد معالم سياسة اقتصادية جديدة ثم أحالها للمكتب. فقمت بإعداد تقرير مفصل يتضمن تحليلا ضافيا لها ويوضح نقاط القوة والضعف. وعندما اطلع عليه بادرنى قائلا: «هل أرسلت لى كشكولا؟». ورغم طول التقرير وأسلوبه العلمى ناقشه معى بتفصيل ينم عن استيعابه للعبارات والتحليلات العلمية وقدرته العالية على مناقشتها. وفى أوائل 1967 كلفنى بإعداد تنبؤات عن موارد النقد الأجنبى حتى 1975، استند إليه فى تأييد سياسة جديدة لم يمهلها القدر. وعندما اتضحت معالم نكسة 1967 قال: «شغل 16 سنة ضاع.. الجيش مخوخ من جوة». وقرر إنهاء حياته السياسية قائلا: «سأذهب إلى البلد وأتفرغ لتربية الدجاج»

 

●●●

 

خلال إحدى زياراتى له فى مكتبه بمنزله القريب من منزلى، طلب استدعاء ابنه فاتضح أنه كان يلعب كرة، فشدد عليه بضرورة استذكار دروسه، والتفت إلىَّ قائلا فى ضيق الأب الملهوف: «عنده إعدادية السنة دى». التعازى للابن فى فقدان أب عطوف، وللمصريين فى توارى المعرفة بجزء مهم من تاريخهم المجيد معه. جزاه الله عن أمته خير الجزاء.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات